ما زالت التعريفات الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية تُلقي بظلالها على حركة التجارة العالمية، وسط تصاعد التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وردود أفعال دولية تتراوح بين القلق والترقب.
وفيما تثير هذه الإجراءات مخاوف من اندلاع حرب تجارية شاملة قد تُربك الأسواق وتُبطئ النمو العالمي، فإنها تفتح في المقابل نافذة من الفرص أمام دول مثل مصر، التي يمكنها استثمار هذه المستجدات لتعزيز تنافسية صادراتها، وجذب الاستثمارات، والتوسع في الأسواق الأمريكية.
ويرى خبراء الاقتصاد أن نجاح مصر في تحويل الأزمة إلى فرصة يتوقف على قدرتها في إعادة صياغة سياساتها التجارية والصناعية، والتركيز على القطاعات الواعدة القادرة على النفاذ بقوة إلى السوق العالمي.

قال الخبير الاقتصادي الدكتور رمزي الجرم إن التصعيد المتواصل في وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين يبقى الأكثر خطورة وتأثيرًا، نظرًا لحجم الاقتصادين،
حيث تستحوذ الولايات المتحدة وحدها على أكثر من 26% من الاقتصاد العالمي بقيمة تفوق 30 تريليون دولار، بينما يأتي الاقتصاد الصيني في المرتبة الثانية بقيمة تُقدّر بنحو 19.5 تريليون دولار.
وأوضح الجرم أن هذا التصعيد أدى إلى حالة من التأهب والقلق الشديدين لدى صناع السياسات المالية والاقتصادية في العالم،
خاصة في ظل ما يشهده الاقتصاد العالمي من ضبابية وعدم يقين، نتيجة للتوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والحرب الروسية الأوكرانية،
والتهديدات الأمريكية بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات توسع رقعة النزاعات المسلحة، ويضع المزيد من الضغوط على أسواق المال العالمية.
وفيما يخص الصادرات المصرية إلى الولايات المتحدة، أشار الجرم إلى أن فرض تعريفات جمركية أمريكية على المنتجات المصرية عند مستوى 10% فقط – وهي النسبة الأدنى مقارنة بدول أخرى تصل الرسوم على صادراتها إلى أكثر من 40% – يُمثل فرصة استراتيجية للمنتج المصري،
لاسيما في قطاع الصناعات النسيجية الذي يُمثل نحو 50% من الصادرات المصرية لأمريكا، والذي يتمتع بميزة تنافسية كبيرة مقارنة بدول أخرى.
الرسوم الأمريكية تفتح أسواقًا جديدة أمام الصادرات المصرية
وأكد الجرم أن هذه الفرصة تتيح لمصر تعزيز الطلب على صادراتها من المنسوجات، وزيادة تنافسيتها السعرية، في وقت تسعى فيه الدولة لإعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية،
مستفيدة من موقعها الجغرافي المميز الذي يربط بين أوروبا وأفريقيا والمنطقة العربية. كما أشار إلى أهمية اتفاقية الكويز التي تتيح للمنتجات المصرية دخول السوق الأمريكي دون رسوم جمركية.
وأضاف أن الصادرات المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية بلغت في عام 2024 نحو 2.2 مليار دولار، محققة معدل نمو 12.3%، وتوزعت على قطاعات عدة،
أبرزها الملابس بقيمة 739.9 مليون دولار، والخضر والفاكهة 113.8 مليون دولار، والسجاد وأغطية الأرضيات 123.3 مليون دولار، والحديد والصلب 227.7 مليون دولار.
ولفت الجرم إلى ما أعلنه محافظ البنك المركزي المصري مؤخرًا من مؤشرات إيجابية تعكس صلابة الاقتصاد المصري، حيث ارتفع حجم الاحتياطي النقدي ليبلغ نحو 47.75 مليار دولار،
فيما تراجع معدل التضخم إلى 13% مقارنة بـ38% قبل عامين، كما انخفض الدين الخارجي من أكثر من 168 مليار دولار إلى نحو 154 مليار دولار.
وحققت صافي الأصول الأجنبية تحولًا إيجابيًا كبيرًا لتسجل فائضًا بقيمة 10 مليارات دولار بعد أن كانت تسجل عجزًا يقدّر بنحو 30 مليار دولار.
فرصة ذهبية لمصر: التوترات التجارية العالمية تدعم الصادرات المصرية
وأكد على أن الدولة المصرية لديها فرص حقيقية لتحقيق مكاسب اقتصادية في ظل التحولات العميقة التي يمر بها الاقتصاد العالمي، من خلال تعزيز الإنتاج المحلي الموجّه للتصدير،
وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من دول تواجه الآن تعقيدات بسبب الرسوم الجمركية المرتفعة على صادراتها لأمريكا، مثل الصين والدول الأوروبية.
كما شدد على أهمية الاستعداد لأي تراجع محتمل في الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة، والعمل على تعويضها عبر أدوات استثمارية أكثر استدامة تدعم الاقتصاد المصري على المدى الطويل.

أكد استشاري التسويق أحمد ماهر أن التداعيات السلبية للتعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخرًا، والرد الصيني عليها،
لا تقتصر على الاقتصادين الأمريكي والصيني فحسب، بل تمتد لتشمل الاقتصاد العالمي بأسره، ومنه الاقتصاد المصري، الذي قد يتأثر بتباطؤ التجارة الدولية وانكماش الأسواق.
وأوضح ماهر أن حالة عدم وضوح الرؤية في السياسة التجارية الأمريكية، خاصة بعد فرض الرسوم ثم إعلان تأجيل تنفيذها لمدة 90 يومًا، تخلق حالة من القلق والارتباك في الأسواق العالمية،
وتزيد من مناخ عدم اليقين لدى المستثمرين، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع التدفقات الاستثمارية وتباطؤ حركة التجارة الدولية.
وأشار إلى أن الأزمات الدولية، رغم تداعياتها، قد تفتح أمام مصر فرصًا واعدة إذا ما تم التعامل معها بسياسات اقتصادية مرنة ورؤية واضحة تضع الاستثمار والإنتاج في صدارة الأولويات.
وشدد ماهر على أن مصر يمكن أن تستفيد من هذه التطورات من خلال توسيع نطاق الحوافز الاستثمارية، لا سيما في قطاع التصنيع، مستفيدة من الميزة التنافسية التي توفرها الرسوم الجمركية المنخفضة على الصادرات المصرية إلى السوق الأمريكية.
وقال: “الفرصة مواتية لأن تغزو علامات تجارية مصرية السوق الأمريكية، في ظل سعي الشركات الأمريكية لتنويع مصادر التوريد بعيدًا عن الصين”.
مصر تسعى لتحقيق التوازن التجاري والاستثماري مع الولايات المتحدة والصين
وأكد على أن التوازن في العلاقات التجارية والاستثمارية مع كل من الولايات المتحدة والصين هو الخيار الأمثل لمصر، بما يضمن تحقيق الاستفادة القصوى من الشراكات الدولية، دون الانحياز لأي طرف، مع التركيز على بناء قاعدة صناعية متطورة ومستدامة قادرة على المنافسة عالميًا.
لفت ماهر إلى أن الصين تمثل نموذجًا صناعيًا مناسبًا جدًا للاقتصاد المصري، خصوصًا في مجال التصنيع منخفض التكلفة، الذي يسهم في خلق فرص عمل ونقل الخبرات الصناعية والتكنولوجية،
مشيرًا إلى أن الصين تُعد الشريك التجاري الأكبر لمصر حاليًا، إذ تتبادل معها كميات ضخمة من السلع والمنتجات، بما يخدم المصالح المصرية، خاصة في القطاعات الزراعية والصناعية.
كما أشاد بالدور الصيني في تمويل مشروعات البنية التحتية الكبرى داخل مصر، وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة، مما يعكس قوة الشراكة الاقتصادية بين البلدين، ويعزز من قدرات مصر التنافسية كمركز إقليمي للإنتاج.
في المقابل، أشار ماهر إلى أن الولايات المتحدة قدّمت أكثر من 30 مليار دولار كمساعدات اقتصادية لمصر منذ عام 1978 عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)،
كما استثمرت نحو 129 مليون دولار خلال عام 2024 لدعم القطاع الخاص، وتحسين التعليم والرعاية الصحية، وتعزيز الشفافية الحكومية.

من جانبه، حذر الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، وكيل وزارة التجارة الخارجية للبحوث الاقتصادية سابقًا، من التداعيات السلبية المحتملة للرسوم الجمركية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رغم تأجيل بعضها أو غموض الرؤية بشأنها،
مؤكدًا أن الإجراءات الحمائية الأمريكية وردود الأفعال الانتقامية من جانب الصين والاتحاد الأوروبي قد تقود إلى حرب تجارية حقيقية، وهو ما يلقي بظلاله السلبية على الاقتصاد العالمي.
وأشار عبدالمطلب إلى أن الأسواق العالمية شهدت خلال الأيام الماضية خسائر فادحة في البورصات أثرت مباشرة على الأسواق الناشئة، ومنها مصر.
وأوضح أن تداعيات التعريفات الجمركية التي أقرها ترامب أدت الى خروج جزء كبير من الأموال الساخنة من مصر بهدف تعويض الخسائر في الأسواق المتقدمة.
وأكد عبدالمطلب أن الأموال الساخنة بطبيعتها قصيرة الأجل وسريعة الدخول والخروج، ولا يمكن الاعتماد عليها كأداة مستقرة لتمويل الاقتصاد.
وأضاف أن استمرار السياسات الحمائية الأمريكية قد يؤدي إلى مزيد من الخسائر، ما لم تتخذ الحكومة المصرية خطوات استباقية.
خفض تكاليف الإنتاج: خطوة ضرورية لزيادة الصادرات المصرية
ودعا عبدالمطلب الحكومة إلى البحث عن بدائل للأسواق الأمريكية، مع ضرورة العمل على خفض تكاليف الإنتاج للحفاظ على تنافسية السلع المصرية في الأسواق الخارجية.
كما طالب بإعادة فتح باب المفاوضات مع الولايات المتحدة للتوصل إلى نظام تجاري ثنائي يضمن استثناء السلع المصرية من الرسوم الجمركية الجديدة.
وكشف عبدالمطلب أن وزارة التجارة الخارجية كانت قد بدأت في عام 2019 سلسلة من المباحثات مع المفوضين التجاريين بالسفارة الأمريكية بالقاهرة،
لتشكيل أربع فرق عمل تستهدف الوصول إلى قائمة من السلع المصرية المعفاة من الرسوم الجمركية الأمريكية، خاصة في قطاعات المنسوجات والملابس الجاهزة والأدوية، إلا أن المفاوضات توقفت بسبب جائحة كورونا.
شدد على أهمية إحياء هذه المفاوضات سريعا، والتوجه نحو إبرام اتفاق لإنشاء منطقة تجارة حرة بين مصر والولايات المتحدة، ما من شأنه تقليل التأثيرات السلبية على الصادرات المصرية، وضمان استمرار تدفق السلع المصرية إلى السوق الأمريكي بشروط تنافسية.