الحب ميراث الأحياء.. والمال إرث الموتى يرثه الأحياء بعد رحيل أصحابه، وشتان بين ميراث الأحياء وميراث الموتي، فقد يتسبب الميراث المادى فى تنازع الإخوة وتناحرهم وخصامهم وربما سريان القطيعة والبغضاء بينهم، وقد يحملون أوزارًا حين يستأثر به بعضهم دون الآخرين ويصبح المال شقاء فى الدنيا ووبالًا على صاحبه فى الآخرة.. ذلك أن «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟»
كل شيء يسأل عن المرء سؤالًا واحدًا، إلا المال ينتظر صاحبه سؤالان معًا: من أين اكتسبه، يعنى مصدر هذا الدخل، وفيما أنفقه.. وهو ما يعنى تحرى ليس فقط مصدر المال بل والحرص على إنفاقه فى وجوه الخير حتى لا يهوى بصاحبه إلى الخسران والشقاء.
ورغم أن المال والحب ركنان أساسيان فى الحياة، يؤدى كل منهما دوره الذى لا غنى عنه؛ لكن الناس بطبيعتهم يميلون إلى حب المال.. يقول الله تعالي: «وتحبون المال حبًّا جمًّا» ويقول الشاعر: رأيت الناسَ قد مالوا إلى من عنده مال.. ومن ليس عنده مال فعنه الناس قد مالوا.
ورغم أن الناس تعلم تلك الحقيقة علم اليقين، لكن قلوبهم تظل معلقة بحب المال، حتى يرفعه بعضهم إلى مصاف الغايات وليس مجرد الوسائل التى تقضى بها الحاجات، وهو ما يخلق حالة صراع وتناحر وتقاتل تحيل حياة البشر إلى رحلة عذاب لا تنتهي.
ورغم أن تجارب الحياة كلها تدل على حقيقة ساطعة مفادها أن الذى يبقى فى النهاية هو الحب، يبقى أثره فى القلوب، بعكس المال الذى هو عرض زائل، فإن كثيرين اليوم يتناسون هذه الحقيقة ويصرون على الجرى وراء عرض زائل لا يشبع طالبه وإن حاز مال قارون، مصداقًا للحديث النبوى الشريف الذى يقول «لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ».
أما الحب بمعناه الأشمل والأوسع؛ فقد يكون سببًا فى يسر العيش وجلب المال، بحسن الخلق والمعاملة التى تجعل صاحبها مقبولًا عند الله وعند الناس، ومن ثم تتوفر له فرص العمل والكسب أو عقد الصفقات ورواج التجارة، ولعل تجارب التاريخ تقول إن الإسلام انتشر بالحب وبحسن الخلق وطيب المعشر لا بالتهديد والوعيد.. نعم انتشر الإسلام فى كثير من البلدان بأخلاق التجار وخاصة بلاد شرق آسيا، لم ينتشر بالفتح والقتال والحروب، وإنما بالصدق والأخلاق من هؤلاء التجار الصالحين الذين كانوا خير سفراء لهذا الدين العظيم.
مصداقية التجار المسلمين وحسن تعاملهم وتطبيقهم لمبادئ الإسلام كان لها دور بارز فى التقرب الكبير من سكان أفريقيا، فبدأ الكثير منهم يدخلون فى دين الإسلام؛ لما رأوه من محاسن أخلاق التجار وأمانتهم، هؤلاء هم الذين تعلموا أصول الدين فى مدرسة النبوة، وفهموا جيدًا قول النبى الكريم:» إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ منكم بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ».. هؤلاء جعلوا المال مجرد وسيلة لتحقيق السعادة وتقديم الحب، وليس بديلًا عنه.
قد يبدو المال والحب، عنصرين متناقضين فى الظاهر؛ لكن لا أرى مثل هذا التعارض، إذا ما وضعنا كلًا منهما فى نصابه الصحيح، فلا يطغى الجانب المادى على تعاملاتنا، ولا تكون مصلحة الفرد معيارًا حاكمًا للعلاقات الإنسانية، وأن يكون الحب أساس كل تعامل ومنطلق كل تصرف.. هنا تعلو الإنسانية ويشتد عودها وتتوارى الأنانية والأثرة وحب الذات.. لكن كيف يتحقق ذلك فى عصر سمته الأساسية هى طغيان المادية..!!
والجواب بسيط للغاية نستقيه من قول النبى الكريم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
إن نحن نجحنا فى ترويض أنفسنا، وتوطينها على هذا المبدأ تخلصنا من شرور المادية وطغيانها على دنيا الناس، وهنا نصل لنتيجة مهمة فى علاقة الحب بالمال، فإذا تحقق الأول كان سهلاً أن يتحقق الآخر، فالحب يصنع المعجزات، ويضع المال فى حجمه الحقيقى كوسيلة إعاشة ضرورية فى الدنيا وليس غاية يتقاتل عليها الناس، وتضيع فى سبيلها الأرواح والأمن والأمان.. انظروا ماذا يفعل الحب فى الناس.. يقول أنس رضى الله عنه: قدم علينا عبدالرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالا سأقسم مالى بينى وبينك شطرين، ولى امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها. فقال عبدالرحمن: بارك الله لك فى أهلك..» الأول زهد فيما يملك وأبدى رغبة جادة وحقيقية فى العطاء والكرم.. والآخر تعفف واستغنى ولم يمد عينه لما يملك صاحبه.. فهل يمكن لقصة كهذه أن تتكرر فى حياتنا.. وكيف نبلغ هذه الدرجة من الإنسانية العالية.. أليس الحب الممزوج بالإيمان هو بطل هذه القصة وغيرها.
ليس هناك تعارض بين المال الذى هو عصب الحياة والحب الذى هو عصب الروح والذى يجعل للحياة قيمة ويعلو بها فوق الغرائز والنوازع والمطامع.
المال وسيلة لتأمين الضروريات مثل المأكل، الملبس، السكن، والتعليم، والرعاية الصحية. فهو يمثل أحد أعمدة الاستقرار المادى فى حياة الإنسان، والحب يجعل هذه المقومات قابلة للحياة والبقاء فى أمن وسلام.
ورغم أهمية المال، إلا أنه قد يكون سببًا فى ظهور المشكلات، سواء بسبب نقصه أو الإفراط فى تقديره، لكن التركيز على المال وحده يجعل الإنسان أسيرًا له، ناهيك عما يمكن أن يؤدى إليه من توتر وإجهاد، وربما يؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية.
أما الحب فهو مصدر طمأنينة، سواء كان بين الزوجين، أو الأصدقاء، أو أفراد العائلة، العلاقات المبنية على الحب تعزز من استقرار الإنسان العاطفى والنفسى وتقوى المناعة وتزيد التماسك الاجتماعي، وتقلل الجرائم وتقى الناس شرور الكراهية والأحقاد.