الحقد مرض نفسى واجتماعى عضال قاومته الديانات والشرائع والفلسفات ولم تفلح فى اجتثاثه من أعماق النفس البشرية لأن الحقد كامن فيه وقادر على أن يتجاوز الذات الفردية ليصبح شأناً جماعياً. وأول ذنب ارتكبه الإنسان على وجه الأرض كان دافعه الحقد، حيث قتل قابيل هابيل فى أول جريمة كانت بين الإخوة.
والحقد شبيه بالفيروس الذى يفتك بالشخصية، «فعندما يتَمَلَّك بنا الحقد فإنّنا لا نعرف إلى أى درجة سوف يؤثّر فى ذواتنا، وفى كل الحالات نحن لن نجنى من ورائه ربحاً أبداً وإنما هو يُكبّدنا خسارة أخلاقية»، هناك دوافع غريزية تأسر الشخص الحاقد فتمنعه من التفكير فى وجاهة الأسباب التى تدفعه إلى توخى سلوك الضغينة، ويفسد الحقد العلاقات الأسرية ويخرّب روابطها ويقوّض «روح العائلة»، وينخر النسيج الاجتماعي، والحقد دليل على ضعف الشخصية ومرض القلوب، ولا يمكن الاعتقاد دائماً أن شخصية الحاقد متورّمة بحكم تشدّدها، بل هى فى نظر علم النفس شخصية ضعيفة وهشّة.
ومن السهل أن يحمل الفرد حقداً وضغينة، ولكنه من الصعب جداً أن يتحلى بشجاعة الصفح والعفو ويزداد الأمر صعوبة طالما بقيت الطرق نحو المصالحة مزروعة بألغام الأنانية والابتزاز.. الحقد لا يبقى ولا يذر. وهو إعصار يُعمى الأعين عن الحقّ والسلام.
والحقد الاجتماعى ظاهرة استشرت بصورة كبيرة، فبعدما كانت النيات سليمة والقلوب صافية والنفوس بريئة صار كل شيء للنقيض تماماً.
نظرة بسيطة خاطفة إلى الأمس كافية بأن تكشف عن المفارقات الكبيرة بين إنسان البارحة وإنسان اليوم فى السابق، كانت الدروب والأحياء تعج بقاطنيها وأبواب البيوت مفتوحة على جيرانها، يتشاركون الأفراح والأحزان، يتقاسمون الحلو والمر، الجميع حزانى لمكروه أصاب فرداً أو أفراداً، سعداء لنجاح أو مناسبة سارة تغمر داراً مجاورة لهم، لا مغبون فى وقت الفرحة ولا شامت فى وقت القرح.
بالعودة إلى واقعنا الحالى نلمس اختلافاً كبيراً جداً، فالبسمة التى كان يلقيها الناس فى وجوه بعضهم البعض فى صدق وعفوية واحترام خفت لونها وطبعها الإصفرار، تحولت براءتها وتلقائيتها إلى شر متقد بالعيون، حتى إذا ما صادفت أحدهم بالطريق رماك بنظرات ثاقبة تقرأ من خلفها الغل والحقد والضغينة، ليس بالضرورة أن يكون بينك وبينه سابق خصام أو عداوة، فقد تكون لا تعرفه نهائياً ومع ذلك يكرهك، ربما لأنه يرى أنك فى نعمة يفتقدها، أو نجاح عجز عن تحقيقه والحقد وإن انتشر فهو لا يأكل إلا صاحبه، والكراهية وإن عمت فهى لن تؤتى أكلاً طيباً.
إن عدم رضا الإنسان عن نفسه وعدم قناعته بما أنعم الله عليه من نعم يتحول مع الأيام لحقد دفين وغل يطفئ نور قلبه، هذا الحقد أساسه شعوره بالنقص وقلة الحيلة مقارنة مع الآخرين. ونلاحظ للأسف من خلال علاقاتنا الاجتماعية بتنوعها زيادة انتشار هذه الصفة المذمومة عند الناس مؤخراً، أن القلوب التى يستوطنها الحقد تفقد احترام المحيطين بسبب إدمانها على افتعال المشكلات.
والحقد مصدر الشر فى المجتمع الإنساني، فالمجتمع الذى يكثر فيه الحاقدون لا يعرف الوحدة ولا يصل أبداً إلى التماسك يؤثر سلبياً على كل خلية من خلايا جسم الإنسان، ومع الوقت يؤدى ذلك لإصابة جسم الإنسان بالسقم وبالأمراض المميتة، كما أن المشاعر السلبية كالغل والحقد تتسبب فى ضعف جهاز المناعة.
هناك أمور لا يستطيع الحقود رؤيتها وهى أن الحقد يقتله وينهيه، فالحقد حين يستقر فى القلب لا يترك فيه مكاناً لأى شعور طيب جميل وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
لابد أن يعلم الانسان أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته، وأنه سبحانه بيده الأمر والنهى لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه، ومن أصابه داء الحقد فإن عليه أن يكف نفسه أن يصنع بالمحقود عليه ضد ما اقتضاه حقدُهُ فيبدل الذمَّ مدحاً، والتكبُّر تواضعاً، وعليه أن يضع نفسه فى مكانه ويتذكر أنه يحب أن يُعامل بالرفق والوُدِّّ فيعامله كذلك.
لقد وصف الله أهل الجنة بأنهم مبرئون من كل حقد وغل، )وَنَزَعْنَا مَا فى صُدُورهِمْ مِّنْ غلّ( ولهذا رأينا مَن يُبَشَّرُ بالجنة من بين أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لسلامة صدره.
ليس أروح للمرء، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مُبرَّأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق لأحدٍ رضيَ بها، وإذا رأى أذى يلحق أحداً من خلق الله رَثَى له، وبذلك يحيا المسلم راضياً عن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمي.
الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله .. .. إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعلل
مالى وللحقد يُشقينى وأحمله .. .. إنى إذن لغبيٌ فاقدُ الحِّيَل؟!
سلامة الصدر أهنأ لى وأرحب .. ..
ومركب المجد أحلى لى من الزلل
وأمتطى لمراقى المجد مركبتى .. ..
لا حقد يوهن من سعيى ومن عملي
مُبرَّأ القلب من حقد يبطئنى .. ..
أما الحقود ففى بؤس وفى خطل
إن الحقد حمل ثقيل يُتعب حامله؛ إذ تشقى به نفسه، ويفسد به فكره، وينشغل به باله، ويكثر به همه. وختاماً فان أكثر القلوب راحة تلك التى تعيش بنقاء القلوب لا تعرف الحقد والحسد، لا تكيد المكائد، لا تشغل نفسها بالدسائس، لا تعرف الكراهية ولا يعنيها الصراع من أجل البقاء موقنة أن كل شيء مقدر بأمر الله.. وأن صفاء النفس ونقاء القلوب هم ركائز النجاح وإن الحاقد دائماً مهزوم وغالباً مهموم.
حفظ الله مصر وحما شعبها العظيم وقائدها الحكيم.