ما أصعب تلك اللحظات التى يعلو فيها صوت الباطل وينزوى صوت الحق صامتا، ومع صمت الحق تختفى الحكمة ويسود الجهل والحماقة، وآهٍ وألف آه لو تسيد الحمقى مواطن صناعة الوعى فى مجتمع ما، سيخفت حينئذ بريق الإبداع ويتسلل القبح إلى كل مكان دون مقاومة، ستألف النفوس رائحة الفوضى والعشوائية وستصبح أكوام القمامة المبعثرة شيئاً عادياً لا تتأذى منها العيون، بيد أن أخطر ما يواجه أى مجتمع هو ان يألف أفراده كل ما هو قبيح دون ضجر أو اشمئزاز أو مقاومة، وهنا احاول ان أغوص قليلاً فى أسباب استسلام أى مجتمع أمام تلك الموجات من القبح، وبداية لابد وان نذكر بعض أشكال وألوان وخطوط هذا القبح.
< فالبعض يظن ان أكوام القمامة والزحام وعدم الاهتمام بالنظافة وانتشار ظواهر التسول وأطفال الشوارع والمهمشين هو فقط ما يمكن ان يكون قبيحا !لكن أورد هنا ما هو أخطر بكثير، واقصد بالطبع قبح السلوك والأخلاق الناتج عن قبح الفكر والثقافة، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا، هل هناك فكر قبيح وثقافة قبيحة؟ الإجابة بالتأكيد نعم فهناك كل ذلك ونراه حولنا وفى كل مكان، فعندما تختفى قيم الأسرة والدين والوطن وتنزوى أمام قيم السوق بكل سوءاته وتناقضاته، لن تجد إلا الترند حكما بين الغث والسمين، فأرقام ونسب المشاهدات باتت هى الحد الفاصل بين الأشياء بصرف النظر عن موقعها من الجملة الإصلاحية.
> فالمنتج الإعلامى أو الدرامى الذى يلقى أكبر قدر من التصفيق والإعجاب والمشاهدات يصعد ليكون تريندًا حتى لو كان مدمراً للقيم المجتمعية، فالبرامج الجادة الاستنهاضية ليس لها نصيب من البروباجندا ومن ثم محرومة من التمويل والإعلانات التى تمثل ضمانة الاستمرار الوحيدة فى سوق بلا ضوابط أخلاقية أو وطنية، اما الأعمال الرخيصة التى تخاطب المشاعر والغرائز عبثاً وفوضى هى التى تتسيد المشهد وتحصد أرقام الإعلانات، بيد ان السبب الرئيس هنا هو وجود طبقة فاسدة تدير منظومات التمويل والإعلانات فى المؤسسات المختلفة حتى الحكومية منها والمملوكة للشعب، مرة أخرى افتح هذا الملف.
> فكيف يعقل لمؤسسة اقتصادية أو خيرية مصرية مملوكة للشعب المصرى ان تدعم بإعلاناتها عملاً يسئ للشعب المصري؟ وهنا أقول بمنتهى الجرأة أن الصحف والبرامج الوطنية ذات المحتوى الجاد والتى تحارب فى كل الاتجاهات مع الدولة وتخاطب العقل والمنطق منحازة إلى المشروع الوطنى المصرى وقضاياه وتحدياته ضحية فساد إدارات منظومة الإعلانات فى معظم المؤسسات والتى تحركها الأهواء والمصالح الشخصية ، فلن تحصل أى وسيلة إعلامية مصرية وطنية محترمة على شريحة إعلانية تستحقها طالما لا تربط القائمين عليها علاقة ما بمتخذ القرار فى هذه الجهة حتى لو كانت حكومية للأسف الشديد.
> فإدارات الإعلانات فى معظم الوزارات والمؤسسات ليست موضوعية وليست منصفة وليس لديها القدر الكافى من النزاهة، وغالباً ما تجد الباشا المسئول عن تلك الإعلانات يقول لك إن نسب المشاهدات هى الحكم ! وهنا أقول وأؤكد ان احدا لا يملك أرقامًا ونسبا صحيحة أو مؤكدة لتلك المشاهدات أو ذلك الانتشار، بل هناك تلاعب وتزوير وفساد يحكم المشهد الإعلانى برمته، الخلاصة وبعيداً عن اللجان والدراسات والتوصيات المتوقعة والتسابق المحموم على الظهور فى الصورة وأخذ اللقطة الملعونة التى أضاعت هيبة الكفاءة وقدسية المساواة وضربت تكافؤ مبدأ الفرص فى الصميم، أقول مجرداً إننا فى حاجة ماسة لوقفة جادة بعيداً عن «المنظرة واللقطة».
> اعلموا يا سادة ان الرئيس لم يتدخل ولن يتدخل ــ فى تقديرى فى حرية الإبداع، ولكنه يتحدث كراعٍ مسئول عن رعيته، مهموم بما يؤثر على وجدان وضمائر وعقول المصريين، والدراما والفن عموما ضمن اهم أدوات هذا التأثير، فما نحتاجه ليس وصفات وخطط وإستراتيجيات، نحن بحاجة إلى إجابات واضحة من مخلصين خبراء عن السؤال المهم وهو ماذا يجب ان يقدم للشعب المصرى فنياً وإعلامياً فى هذه المرحلة؟ ثم بعد ذلك نتحدث عن الكيفية التى يقدم بها، وهذا السؤال البسيط يحتاج إجابة موثقة مبنية على بيانات ومعلومات ودراسات علمية عن مزاج الشعب المصرى بعد عشرية من العمل غير المسبوق فى ظل ظروف ضاغطة محلياً واقليمياً ودولياً.
> هل نحتاج إلى جرعات ترفيهية تخفف عن الشعب صعوبات الحياة؟ هل نحتاج إلى برامج ومواد جادة تساعد فى بناء جدار الوعى لمواجهة المخططات التى تستهدف الأمة المصرية؟ هل نحتاج إلى برامج تنموية تساهم فى رفع مستوى الكفاءة الاقتصادية؟ هل نحتاج إلى دراما تعكس قصص النجاح التى تحققت وسط المعاناة؟ هل نحتاج إلى قصص تاريخية تعكس حكايات الدول التى نهضت فى ظروف مشابهة؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات أمينة قبل ان نفتح الحوارات والمؤتمرات التى تستطيع الإجابة عن السؤال التالى وهو كيف نصنع ذلك.