العندليب الأسمر الصوت الدافئ الذى لا يموت وذكريات لا تُنسى
كان يحرص على كتابة خواطره ومذكراته اليومية
قبر حليم مزار سياحى مع الأهرامات والنيل


نهاية مارس من كل عام تحل ذكرى الغائب الحاضر، صاحب الصوت الدافئ العذب الملائكي.. ساحر القلوب الذى فتحت أعيننا على أغانيه العاطفية الرومانسية الراقية، والذى ملك قلوبنا بإحساسه الراقى وابتسامته البريئة، صاحب القلب الأبيض والمشاعر الجياشة، إنه العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذى أصبح جزءاً من ذكرياتنا فى طفولتنا ومطلع شبابنا وأيام المراهقة والحب الأول وأحلام الصبا، غاب العندليب جسداً وتواجد روحاً وصوتاً بيننا بأغانيه الجميلة التى لا تنسى ولا تغيب عن أذهاننا وقلوبنا وعقولنا، وبرغم سنوات الفراق الطويلة إلا أنه ما زال حياً بيننا وكأنه رحل بالأمس، فصوته الشجى يدق فى أذهاننا ويشدنا إلى أعمق أعماق الإحساس من شباب وأطفال ورجال وفتيات ونساء فى كل أرجاء المعمورة فى مصر والوطن العربى الذى مازال أبناؤه يرددون أعماله.
غاب عملاق الأغنية الرومانسية جسداً وتواجد بما قدم بين محبيه من جمهوره الكبير العاشق لأغانيه العاطفية، فعذوبة صوت حليم لا يختلف عليها أحد إلى جانب جاذبيته وطلته وابتسامته الساحرة، وحليم له مكانة خاصة عند عشاقه، فأغنياته هى لغة التفاهم والتخاطب بين المحبين، هى إشراقة لكل القلوب التى تخطو خطواتها الأولى نحو الحب العذرى العفيف.!!
هذا العندليب يمر على رحيله 48 عاماً، ويتصادف أن حليم توفى أيضاً عن عمر يناهز الـ48 عاماً، وبالرغم أن سنوات الرحيل التى طالت وامتدت وتعاقبت عليها أجيال جديدة، إلا أن نجومية عبدالحليم حافظ لم تتوقف عند معاصريه بل امتدت وعانقت الأجيال الوليدة الذين جاءوا للحياة بعد رحيله وأدركوا قيمة هذا النجم فأصبحوا من عشاقه ومريديه يدندن كلً منهم أغانيه، ويستمعون إليها بواسطة لغات العصر من الإنترنت والسوشيال ميديا واليوتيوب وغيرها تأكيداً أن حليم متواجد وبقوة برغم سنوات رحيله الطويلة.!!
بابا حليم
الأحد كانت ذكرى العندليب، واليوم تلتقى «الجمهورية» بأقرب شخص إلى قلبه محمد شبانة ابن الشقيق الأكبر لعبدالحليم الذى تحدث بكل شفافية كاشفاً عن أسرار جديدة فى حياة عمه لا يعرفها أحد، مؤكداً أنه تعلق بالعندليب عند طفولته، ومازال يتذكر أحضانه وهو يحمله على صدره مداعباً إياه وسعيداً به، وهو يردد بأن «محمد» هو من سيحمل اسم الأسرة – وقد كان – فهو الطفل الذكر الوحيد فى عائلة عبدالحليم وقال:
بينى وبين بابا حليم، فهكذا كنت أناديه، رباط روحى يفوق الوصف، وبرغم صغر سنوات عمرى عند وفاته، إلا أننى أتذكر كل شيء، فقد كنت واعياً ليوم وفاته وعمرى 6 سنوات، وأذكر أننى استيقظت من نومى فوجدت والدتى ترتدى ثياباً سوداء، فانزعجت وقلت لها على الفور متسائلاً «بابا حليم مات»، وذهبنا إلى منزله، فقد كنا نسكن فى شقته السابقة بالعجوزة والتى أعيش فيها مع أسرتى حتى الآن، وفى منزل حليم وجدناه ممتلئاً بالناس يبكون وبعضهم يضربون رأسهم فى الحائط، وأذكر أن بيت عبدالحليم شهد أول حالات الانتحار، فقد انتحرت فتاتان إحداهما قفزت فى المنور، والثانية قفزت من البلكونة للشارع، والثالثة شربت سماً، ولكن الإسعاف استطاعت اللحاق بها وإنقاذها، وفى يوم الجنازة شيد سرادق كبير أمام المنزل الذى امتلأ بأمم بشرية، سيل من البشر لا ينقطع يبكون داخل السرادق وخارجه.!!
وأضاف: عبدالحليم حافظ كان أجمل شيء فى حياتنا وما زال فخراً لأسرتنا ولمصر، فعلاً أفتخر أنا وأسرتى بأننا ننتمى لحليم، وعندما أذهب لأى مكان فى العالم سواء الدول العربية أو حتى الدول الأوروبية أجد ترحيباً كبيراً بشخصى ويكاد يحملوننى على رأسهم من كثرة الامتنان والحب لحليم، ودائماً أتلقى عبارة «الله يرحمه»، هناك ناس تأتى لزيارة مصر سياحياً فيزورون الأهرامات والنيل ويذهبون أيضاً لقبر حليم، إذ أصبحت مقبرته أحد الأمكنة التى تشهد إقبالاً من زوار مصر.
جذور العائلة.. آل البيت
وانتقل الحديث مع محمد شبانة فى إلقائه الضوء على جذور عائلة عبدالحليم حافظ، مؤكداً أن عائلة شبانة ترجع أصولها للجزيرة العربية، من منطقة نجد لقبيلة بنى تميم، ويعود نسب «الشبابنة» إلى الإمام على والسيدة فاطمة الزهراء ابنة النبى (صلى الله عليه وسلم)، أى أن آل شبانة من الأشراف من آل البيت النبوى الشريف، ومن منطقة نجد هاجر «الشبابنة» إلى عدد من البلاد العربية منهم مصر والبحرين والكويت، وفى مصر تفرقوا فى عدة محافظات منها الشرقية والدقهلية والمنوفية، وقد أشار عمى عبدالحليم حافظ بأحد التسجيلات التليفزيونية العربية بأن عائلة شبانة من الأشراف، وهناك جمعية فى مصر تحمل اسم «آل شبانة « ومقرها بشارع قصر العيني، وبداخل الجمعية توجد شجرة العائلة والتى يرجع تسلسلها للأشراف.
وقال: عندما كان يصاب عبدالحليم حافظ بالاكتئاب بسبب حالته النفسية التى أثر فيها طول المرض، كان يذهب مع أحد أصدقائه لمقام سيدنا الحسين- والذى ينتهى إليه نسبه- متخفياً بنظارة سوداء وكوفية، ويجلس يقرأ القرآن مناجياً ربه، وقبل رحيله بعامين قام بعمل عمرة، وتصادف عندما كان يطوف فى الكعبة أن كان هناك غسل بداخل الكعبة المشرفة، فحضر الغسل وشارك فيه داخل كيان الكعبة، وقام بأداء الصلاة فى أركانها الأربعة، وشعر براحة نفسية كبيرة، وعندما عاد لمصر كان يحكى بفخر وسعادة دخوله داخل بيت الله سبحانه وتعالي.
وحدة صحية.. وجامعة الزقازيق
وقال شبانة: عبدالحليم حافظ كان إنساناً طيب القلب، وباراً بأسرته، بل وبقريته فقد ساهم فى إدخال الكهرباء لبيوت قرية الحلوات، كما أسس وحدة صحية فى القرية لعلاج مرضى البلهارسيا والكلي، ولجميع الأمراض المستوطنة والبروستاتا والأنيميا، ولم يتوقف عطاؤه عند مسقط رأسه بقرية الحلوات بل امتد لمحافظة الشرقية وشيد مسجد الفتح أكبر مسجد فى الشرقية، كما قام ببناء جامعة الزقازيق حيث تبرع بإيرادات خمس حفلات غنائية قام بإحيائها داخل مصر والخارج، وبعد وفاته حرصت عمتى «عليه» ألا يتوقف العطاء عند رحيله فعملت على بناء المعهد الأزهرى المعروف بالزقازيق.
رؤية العذراء
وأضاف: الأمور الروحانية والدينية كانت من سمات حياة عبدالحليم حتى أنه عندما كان يسكن بشقته القديمة فى حى العجوزة ظهرت له بإحدى الحجرات السيدة مريم العذراء بكل تفاصيل وجهها وجسدها، كما ظهرت فى نفس الحجرة لشقيقه – وأبي- محمد، وأيضاً الحاجة فردوس زوجة شحاتة ابن خالة حليم، وقد وصفها لبعض القساوسة الذين يعرفون تفاصيل وجهها وأكدوا على رؤيته، حتى أنه بعدها تبرع لكنيسة سانت تيريزا بالقاهرة، وقامت الكنيسة بعمل لوحة كبيرة باسم عبدالحليم حافظ ذكرت فيه عن تبرعه لها.
أسعد الناس.. ولم يسعد
وأضاف شبانة: الشيخ محمد متولى الشعراوى تحدث عن عبدالحليم حافظ بعد وفاته وقال عبارة لا تنسى وهي: أن عبدالحليم « أسعد الناس.. ولم يسعد « موضحاً أن سعادة الإنسان فى شيئين من الطيبات.. الزوجة الصالحة وأكل الطعام، وهما أكبر سعادتين حرما منهما حليم، فهو لم يتزوج، ولم يكن يأكل أشهى الطعام، فقد كان أكله بالمياه، يأكل دجاجاً مسلوقاً وأرزاً بدون ملح، والحلو بالوظة أى مهلبية من غير لبن، وذلك لأنه كان يعيش بنصف المعدة، فقد استأصل عمى نصف معدته، كما استأصل أربعة ضلوع إلى جانب المرارة والطحال، وتلك أسباب كانت تمنعه من القيام بالصيام فى رمضان فكان لا يقدر عليه، وكانت تلك العبادة الوحيدة التى لا يستطيع القيام بها بأمر الأطباء، فكان يقوم بذبح العجول فى القاهرة وأيضاً فى قريته الحلوات، ويوزع لحومها على الفقراء تكفيراً عن عدم صيامه.!!
وأضاف: أشهى الطعام لا يستطيع عمى حليم الاقتراب منه، حتى أنه كان يستضيف أصدقاءه لعزومات كبيرة فى المنزل، ويطلب من الجالسين بجواره أن يأكلوا من أنواع معينة يشتهيها ولا يستطيع هو أن يأكلها أو يتذوقها، وحليم منذ كان عمره 26 عاماً يأكل بملح خفيف، إلا أنه قبل وفاته بعشر سنوات كان يأكل بدون ملح أو دهون، وعند إفطار الصباح يأكل بياض البيضة فقط بدون الصفار، ومعه معلقة عسل نحل، وشاى خفيف جداً مع قطعتى بسكويت، وكان لا بد ان يكون نحيف الجسد، بمعنى أن يكون عنده أنيميا، خوفاً أن ينزف المريء، وإذا ارتفع « الهيموجلوبين» كان الأطباء ينزلونه لدرجات أدني.
وقال: اعتاد عبدالحليم حافظ أن يحضر مقرئاً ليقرأ آيات من القرآن الكريم مرتين أسبوعياً، يومى الإثنين والخميس، وقد بدأ على ذلك الأمر منذ كان يسكن فى شقة المنيل، ثم شقة العجوزة، وأخيراً شقة حى الزمالك التى عاش فيها بقية عمره..، كما حرص عبدالحليم ألا يتوقف غناؤه على أغانيه الرومانسية والوطنية، بل امتد بأن أنتج ألبوماً دينياً به «11 دعاء دينياً» بعنوان «أنا من تراب» كلها من ألحان صديقه محمد الموجى وكلمات الشاعر الصوفى عبدالفتاح مصطفي.
مذكرات حليم بصوته
وكشف محمد شبانة بأن عبدالحليم حافظ منذ بداية ظهوره كان يتلقى مئات الخطابات يوميا من معجبيه، ولعدم قدرته فى الرد على رسائل المعجبين بصفة مستمرة، قرر أن يقيم مكتباً خاصاً بموظفيه للرد على رسائل معجبيه وعشاقه فكان أول فنان يفعل ذلك، كما كان يأرشف خطابات المعجبين، إلى جانب إحتفاظه بكل حواراته فى الصحف والمجلات وكل ما كتب عنه مع أرشفتها، والتى وصلت لأكثر من 200 ألف صفحة بها كل ما كتب عنه فى حياته وحتى بعد رحيله، وما اعتاد عليه حليم فى حياته استمر لبعد رحيله، حيث حرصت الأسرة على جمع كل ما كتب عن حليم بعد رحيله حتى ولو خبر صغير، وتم أرشفة تلك الموضوعات والتحقيقات والتى وصلت إلى أكثر من 200 ألف صفحة، إلى جانب عشرات المجلدات من الصحف والمجلات المختلفة التى تتناول حياته، من بينها الأعداد الخاصة التى كانت تصدر عن حليم فى ذكراه بالمجلات الفنية المصرية واللبنانية والخليجية.
وأوضح قائلاً: كان حليم يحرص على كتابة خواطره ومذكراته اليومية، ولقد قمت بجمعها والاحتفاظ بها داخل دفاتر ضخمة لا تخطر على بال أحد، إلى جانب هناك تسجيلات بصوت حليم يتحدث فيها بكل صدق عن حياته ونشأته، وقريباً سأصدر مذكرات حليم بصوته.. وهى المذكرات الحقيقية، أما ما صدر من البعض عن مذكرات حليم فهى غير حقيقية، فقد كانت عبارة عن تجميع للقاءات أو حوارات أو انطباعات شخصية منهم له، لذلك فإننى أحضر أيضا لفيلم وثائقى «ديكومينت دراما» يتناول حياة حليم بأشخاص يجسدون شخصيته ومن تعامل معه.
وأضاف: أما ما ظهر على الشاشة الصغيرة من مسلسل تليفزيونى أو الشاشة السينمائية فلا علاقة لها بسيرة عبدالحليم، فعبدالحليم ظلم مرتين، الأولى مع سبق الإصرار والترصد بسبب المسلسل التليفزيونى المحدود فى أحداثه غير الحقيقية وكسب القائمون عليه ملايين الملايين، والمرة الثانية كان اضطرارياً عندما أنتج فيلم حليم بطولة أحمد زكى الذى كان معذوراً فى أدائه بسبب آلام مرضه، وهناك مشاهد قدمها زكى وهو فاقد للبصر لا يري، تصل إلى ما يقرب من 20 مشهداً.
طقوس عيد الفطر
وعن طقوس عيد الفطر فى منزل عبدالحليم قال شبانة: الأسرة كانت تحافظ على تقاليد العيد التى اعتادت عليها منذ كانت تعيش فى قرية الحلوات بالشرقية، وفى الأيام الأخيرة من شهر رمضان، كانت نساء العائلة تجتمع فى منزل حليم بالزمالك بقيادة عمتى الحاجة عليه، ومعها الحاجة فردوس زوجة شحاته ابن خالة حليم، والسيدة سميرة زوجة عمى الفنان إسماعيل شبانة، بالإضافة إلى أمي، ويعكفون جميعاً على صناعة وعمل الكعك والبسكويت المنزلي، وكان عبدالحليم رحمه الله يشرف عليهم ويشجعهم.
وفى صباح العيد كان يرسل مع السائق أظرف بها أموال لعدد من الأسر بقرية الحلوات، إلى جانب أظرف أخرى معايدة لأسر أخرى فى القاهرة، وأتذكر ان حليم كان يرسلنا مع إبن خالته شحاته إلى مكان اسمه «جوت شوت» فى المعادى لنفطر أول يوم هناك، لقد كان يسعد بحلول عيدالفطر ويسعى لنفرح معه بكل الوسائل الممكنة، بشراء ملابس العيد الجديدة لكل أطفال العائلة وأيضاً الكبار.. مع إهدائنا العيدية وشراء لعبة جديدة لكل واحد من الأطفال على حسب اختياره، رحمة الله عليه كان إنساناً جميلاً محباً لكل الناس، فأحبه الناس بمختلف طبقاتهم حبا كبيراً لا ينتزع من قلوبهم!!..