قبل سنوات قليلة، كانت ظاهرة «أبناء الشوارع» مصدرًا لوجع كبير فى كافة الأنحاء تقريبًا. عندها، كان المواطن المصرى فى خط سيره اليومى يتلّفت يمينًا ويسارًا، ذهابًا وعودة، متساءلاً بينه وبين ضميره الإنسانى: متى وكيف تنتهى هذه الظاهرة الصعبة؟
لجأت الدولة المصرية، ممثلة فى وزارة التضامن الاجتماعى بالتعاون مع عدد من الهيئات والجمعيات المعنية، إلى مجموعات من فرق العمل «المحترفة» فى مواجهة هذه الظاهرة، عبر الجولات الميدانية بالمحافظات، والخطوط الساخنة لتلقى شكاوى المواطنين، ورصد كل كلمة وصورة تنشر فى هذا الشأن بمواقع التواصل الاجتماعى؛ لتتحرك بمنتهى السرعة والكفاءة؛ للأخذ بيد المحتاجين، و»الطبطبة» على قلب المشردين.
«الجمهورية» ترصد، فى هذا الملف، تفاصيل الجهود الضخمة والمتواصلة التى تبذلها أجهزة الدولة؛ لانقاذ المشردين فى الشوارع، وتحويلهم من «سكين» فى الظهر إلى «أداة إنتاج» فى اليد. تلك تفاصيل «إنسانية» مهمة على الطريق الصحيح، كل ما نحتاجه أن نضعها موضع اهتمام، ونواصل البناء عليها؛ لانقاذ حاضر ومستقبل هؤلاء الذين جارت عليهم الحياة والظروف، وآن أوان الدولة لأن تفعل من أجلهم كل ما تستطيع.
**
«القباج» تكشف مهام «فرق التدخل السريع».. وتُعلن التحول إلى إستراتيجية «الوقاية»
جنود
الخير.. والرحمة
مع الانخفاض الكبير فى درجات الحرارة، اتخذ المشردون – سواء الأطفال أو كبار السن – من أرصفة الطرقات مأوى لهم.. افترش البعض منهم أسفل الكبارى وسلالم الإنفاق ومحطات القطارات، تجدهم أيضًا أسفل الأشجار وفى الحدائق العامة، وبمحيط المساجد والأضرحة. وفى مشاهد غير مألوفة تجد منهم من يسرع خلف السيارات بإشارات المرور إما لبيع المناديل والورد والفل، أو لمسح الزجاج بالقوة ، وتجد منهم يسير هائما على وجهه، بهيئة غير نظيفة، وشعر كثيف وملابس مهلهلة.
لا نعلم هل تفنن فى صنعها لكسب تعاطف المارة ومد يد العون له؟ أم هو بالفعل من أصحاب الاضطرابات العقلية؟ أو ممن دفعته ظروفه الاجتماعية القاسية إلى الشارع بحثا عما افتقده داخل الأسرة، أم هو ممن ضل الطريق وعجز عن الرجوع لتأخر قدراته العقلية؟ أم هم من «حمل السفاح»؟ ومنهم من ضاقت بهم منازلهم وصدور ذويهم ففروا إلى الشارع كـ«ملاذ» لمشكلاتهم فاحتضنهم الشارع بقسوته وأمراضه الخطيرة.
افتقد هؤلاء مقومات الحياة، ومنهم من فقد عقله، كل ما يشغل تفكيرهم فى هذه الأيام مواجهة لفحات البرد القارس، وعندما تصل إليهم أجهزة الدولة المعنية، تمنحهم مأوى جديدًا يليق بإنسانيتهم، وتنتشلهم من قسوة الشارع إلى رحاب حياة الآدمية الكريمة. وتنفيّذا لتوجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى، تبذل الدولة جهودًا ضخمة وغير مسبوقة؛ لانقاذ هؤلاء المشردين من براثن الخطر، ووضعهم على طريق النجاة، مع توفير حياة آدمية لهم فى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والتى تقوم بتأهيلهم ليصبحوا أفرادًا صالحين فى المجتمع بكل ما تحمله الكلمة من معانى.
رعاية المشردين ومن هم بلا مأوى، تقع مسئوليتهم على وزارة التضامن الاجتماعى، باعتبارها مسئولة بصورة مباشرة عن رعاية هذه الفئة، والحقيقة يتم بذل الكثير من الجهود فى هذا الملف، فقد تبنت مبادرة إنسانية لإيواء المشردين من الشوارع والطرقات، بهدف تقديم فرصة لمن لا مأوى لهم، بعيدا عن التحديات الصحية والاجتماعية التى يتعرضون لها فى الشارع، وذلك عن طريق فريق معروف باسم «التدخل السريع».
وحسب أحد التقارير التى عرضتها الدكتورة نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعى، أمام الجهات المعنية، عن جهود فريق «التدخل السريع» خلال عام 2023 ، أشارت تعامل الفريق على مدار عام 2023 مع 4360 بلاغًا واستغاثة، تنوعت بين حالات أطفال وكبار بلا مأوى وتدخل مؤسسات الرعاية بنسبة إنجاز تصل إلى 98% ، أكثر الحالات كانت بمحافظة القاهرة وتليها الإسكندرية، ثم الجيزة، وبعدها الغربية وقنا، وذلك بعد تلقى منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة تم التدخل لـ 2457 بلاغًا.
كما تم تقديم مساعدات عينية ومالية لـ 526 حالة، وإيداع 482 حالة بمؤسسات الرعاية الاجتماعية بين أطفال ومسنين بلا مأوى، ونقل 354 حالة بالتعاون مع وزارة الصحة بالمستشفيات التابعة لها.
أوضح التقرير أن الفريق تلقى دعمًا قانونيًا مهمًا يتمثل فى منح 60 عضوًا من أعضاء الفريق المركزى وأذرعه بالمحليات ، حق «الضبطية القضائية»، تحقيقًا لسهولة العمل فى حالة رصد تجاوزات وانتهاكات ضد نزلاء تلك المؤسسات من الأطفال والمسنين.
وفى هذا الإطار، أكدت «القباج» أن التشرد ظاهرة اجتماعية تتسم بـ «التغير والتنقل»، كما أن لها العديد من التبعات الاجتماعية والأمنية والإنسانية، بالإضافة إلى الاختلاف بشأن تعريف «التشرد» فمن هؤلاء المواطنين الذين يقطنون الشارع من لهم مأوى، ومنهم من يعمل خارج نطاق محافظته واتخذ الشارع مأوى له، وهناك من لديه خلاف مع أسرته ويقطن الشارع بشكل مؤقت، أو من لديه إعاقة ذهنية أو عقلية، أو من يتخذ التسول وسيلة لكسب العيش.
وأشارت وزيرة التضامن الاجتماعى، إلى امتلاك مؤسسات رعاية عديدة على مستوى الجمهورية ولكافة الأعمار، تشمل 168 دار مسنين، و21 دار كبار بلا مأوى، و51 دارًا للدفاع الاجتماعى للأطفال، بالإضافة إلى 435 مؤسسة رعاية للأيتام، و43 حضانة إيوائية.
وأوضحت أن الوزارة قامت منذ العام الماضى بغلق حوالى 60 دارًا، ودمج بعض المؤسسات، وبالتالى فإن هناك أماكن للمشردين فى دور الرعاية المتنوعة، وذلك يتم وفق ضوابط ومحددات يتم استيفاؤها قبل إلحاق المشردين بهذه الدور، والتى تتلخص فى التأكد من عدم وجود أمراض خطرة أو معدية، أو إثبات عدم تعاطى المخدرات، بالإضافة إلى ضرورة التأكد من خلو الوافد من الشارع من الجريمة أو المخالفات القانونية.
وأضافت أن التجارب أثبتت وجود بعض الاختلالات النفسية والسيكولوجية التى تستدعى وجود رعاية طبية متخصصة وليس فقط رعاية اجتماعية، ولذلك كان هناك تنسيق بين وزارتى التضامن، والصحة، فى هذا الشأن، موضحة أن هناك آلية «التدخل السريع» لدى وزارة التضامن ثبت فعاليتها فى التدخل الفورى وسرعة الاستجابة لأى بلاغ أو شكوى بنسبة 100% من البلاغات، حيث جاء متوسط عدد الحالات التى يتم التدخل بشأنها حوالى 270 حالة شهرياً، وذلك بالتنسيق مع لجنة الضبطية القضائية بالوزارة والسادة مأمورى الضبط القضائى على مستوى الجمهورية فى حالات تعرض أى من المواطنين للخطر.
وأعلنت «القباج» أن الوزارة بصدد التوسع فى آليات التدخل السريع، بطرح سبل جديدة للتدخل الوقائى والرصد المبكر، مع انتشار سيارات التدخل فى الشوارع المعروف عنها أن تضم أعدادًا كبيرة من المشردين، وذلك بدلاً من الانتظار لحين الإبلاغ أو تلقى الشكاوى الاستغاثات والبلاغات من المواطنين سواء عن طريق البلاغات الواردة من الخط الساخن للوزارة (16439) والخط الساخن لمنظومة الشكاوى الحكومية الموحدة برئاسة مجلس الوزراء (16528) أو من خلال ما يتم رصده عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، لإنقاذ ضحايا التشرد بالشوارع.
*****
تعاون وتنسيق لتقديم خدمات «لا يتخيلها أحد»
أكبر من مجرد “انقاذ”
مع الدور الكبير الذى تلعبه فرق «التدخل السريع»، كان لا بد من الاقتراب أكثر إلى التجربة، والاستماع إلى أحد المسئولين الكبار عنها.. محمد يوسف، رئيس فريق التدخل السريع بوزارة التضامن الاجتماعى، والذى أوضح أن «التضامن» تدير ملف مواطنين بلا مأوى، من خلال العديد من الآليات والاتجاهات المتعددة، وفى مقدمتها إنشاء وحدة فريق «التدخل السريع» فى شهر اكتوبر من عام 2014.
الوحدة استهدفت تحقيق «حماية مستدامة» لبعض الفئات التى تتعامل معها الوزارة، مثل مواطنين بلا مأوى، دور الرعاية الاجتماعية، والحالات الإنسانية المختلف، ويتشكل الفريق من مجموعة من الاخصائيين الاجتماعيين والنفسيين من العاملين بالوزارة، تحت إشراف مباشر من جانب الدكتورة نفيين القباج وزيرة التضامن الاجتماعى. .وأضاف أن الفريق يقوم بالتدخل المهنى العاجل فى الشكاوى والبلاغات الواردة، من خلال الخط الساخن، ومنظومة الشكاوى الحكومية الموحدة.
وأوضح أن فريق «التدخل السريع» يتحرك على عدة محاور؛ للتعامل مع الشكاوى والحالات المختلفة، سواء لمواطنين بلا مأوى «أطفال وكبار»، كما تم التعامل عام 2023 مع ملف مكافحة الاتجار بالبشر، وكذلك مكافحة الهجرة غير الشرعية بالتنسيق مع الجهات المعنية، مضيفًا: يتكون الفريق من 150 عضوًا على مستوى الجمهورية.
أكد «يوسف» أن الدولة المصرية بذلت الكثير من الجهود؛ للتعامل مع ملف «مواطنين بلا مأوى»، وذلك على النحو التالى:
1ـ انشاء دور رعاية متخصصة بتصنيفات طبقا للفئات التى يتم التعامل معها فى الشارع، بها كادر وظيفى يستطيع التعامل مع هذه الفئة؛ لتقديم كافة اوجه الرعاية الاجتماعية، من انشطة ترفيهية واجتماعية، وتأهيل نفسى ومهنى، وإعادة دمج سواء مع الاسرة أو المجتمع وتعدد دور الرعاية الاجتماعية، ما بين دور خاصة بالأطفال منها للفتيان وأخرى للفتيات ودور خاصة بفئة الكبار، منها ما يختص بالرجال، وأخرى مخصصة للسيدات، وقد تم التوسع فى انشاء هذه الدور الى ان وصلت الى 22 داراً، بالإضافة إلى وجود بعض الدور الاخرى تحت الانشاء، الأمر الذى يعكس حجم الاهتمام الذى توليه الوزارة لهذا الملف، فى ضوء التعامل الإنسانى التى توجه به القيادة السياسية نحو لفئات المهمشة والضعيفة.
2ـ انشاء فرق متخصصة على مستوى الجمهورية؛ للتعامل فى الشارع وتوفير وحدات متنقلة لإجراء تدخلات عاجلة ومتخصصة، من اقامة انشطة مع الاطفال، بهدف جذبهم واجراء دراسة حالة لهم لمعرفة اسباب توجدهم بالشارع والتواصل مع أسرهم لمعرفة التحديات التى تقف خلف استمرار وجودهم به، بهدف اعادة دمجهم داخل أسرهم، وتقديم المساعدات المالية والنفسية لهم او ايداع الاطفال بإحدى دور الرعاية الاجتماعية المتخصصة والمناسبة لإعادة تأهيلهم نفسيا وتعليميا ومهنيا ، وكذلك مع الكبار يتم اجراء تدخلات تهدف إلى اقناعهم بالدخول بدور الرعاية الاجتماعية لتقديم الخدمات المناسبة لهم .
3ـ التنسيق المستمر بين الوزارات والجهات المختلفة فيما يخص تقديم الخدمات التى تحتاجها هذه الفئة من الوزارات والجهات المعنية بهذا الملف وهى وزارة التضامن الاجتماعى، وزارة الداخلية، وزارة العدل، وزارة الصحة والامانة العامة للصحة النفسية وعلاج الادمان، وصندوق مكافحة الادمان والتعاطى
4ـ انشاء لجنة تطوير منظومة تقديم الرعاية للمشردين بقرار وزير التضامن الاجتماعى رقم 355 لسنة 2021.
***
خبراء الصحة النفسية الأسباب الرئيسية للهروب من «الأمان» إلى «الضياع»
ابحث عن
«التفكك» الأسرى
سنوات من التشرد والعذاب يقضونها فى الطرقات وعلى الأرصفة، يتجولون هائمين على وجههم نتيجة ظروف قهرية وقاسية منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو نفسي، حيث أجبرتهم على الهروب من الواقع والمجتمع، فمنهم من أصبح مريضاً نفسياً أو فاقدا للذاكرة، ومنهم من رحل عن الدنيا دون أن يشعر به أحد، ومنهم من حالفهم الحظ وتوصل إليهم متطوعون عندما بدأوا رحلة البحث عنهم؛ ليوفروا لهم الرعاية والمسكن والحياة الكريمة.
الدكتور علاء الغندور، استشارى العلاج النفسى السلوكى والتحليل والتأهيل النفسى والمستشار الأسرى والتربوي، يرى أن الهروب إلى الشارع أو الإجبار على الهروب كان فى الماضى يخص «فئة معينة» وهم أطفال الشوارع أو الضالون الذين ضلوا الطريق والعودة إلى المنزل، ولكن توسعت اليوم الظاهرة، وانضم لهذه الشريحة شرائح أخرى من بينها حالات التفكك الأسري، فيضطر الأطفال إلى الهروب من جحيم المعيشة فى المنزل إلى الشارع.
ويشير إلى أن جميع الحالات السابقة تحولت إلى «قنبلة موقوتة» فى المجتمع، وللأسف الجميع خلال العقود الماضية أغمض عينيه عن تلك الظاهرة، رغم توسعها وخطورتها، موضحًا أن المناخ العام فى بعض اماكن العمل يؤدى إلى الإصابة بالإحباط واليأس.
يؤكد «الغندور» أهمية علاج تلك الحالات، وتوفير «حياة آدمية» لأصحابها، مع خلق جيل جديد من الأطفال والشباب مؤهلين لمواجهة الحياة بكل صعوباتها، دون هروب من المسئولية، خاصة أن 60 فى المائة من أطفالنا مرضى ومعقدون نفسيا بسبب ترك الآباء لهم فريسة لوسائل الإعلام والسوشيال ميديا تتحكم فيهم كيفما تشاء، مضيفًا: لابد أن يكون لدينا الوعى الكافي، ونعلم بعضنا التراحم والأخلاق والدين وعلاج التفكك الأسري، كما يشير إلى أهمية إطلاق الحملات المعنية بالصحة النفسية، حتى يكون لدينا قدرة أكبر على تحمل أزمات الحياة.
من جانبه، يوضح الدكتور جمال فرويز، استشارى الطب النفسي، أن تلك الظاهرة قد بدأت فى الظهور لأول مرة عام 97/98، حيث كان لدينا مجموعة من الشباب بمستشفى الصحة النفسية يتم التعامل معهم بطريقة «غير آدمية» لفترات طويلة.
يوضح «فرويز» أن خلق جيل «سليم» من الناحية النفسية أمر مطلوب وضروري، وهى مسألة تحتاج الى مجهود جبار، وتنفيذ «مدروس» من جانب المؤسسات المسئولة، حتى يكونوا بمثابة «أداة انتاج» و»استثمار بشري» للدولة على المدى البعيد.
****
4 قصص مختلفة ومصير واحد.. «الرعاية» طوق النجاة من «المعاناة»
حكايات ..من اوراء الجدرانب
الحياة «كتاب مفتوح»، صفحاته مليئة بالحكايات، بعضها يُسعد القلب، والاخر يفجعه، لكن يظل هناك «فريق أمل» من أصحاب الأيادى البيضاء، ينشر دائمًا الرحمة بين الباحثين عنها، والمحتاجين لها.
هناك من لفظتهم الدنيا بقسوة، وأصبحوا بين ليلة وضحاها فى الشارع «بلا مأوى»، لكن لأن العناية الإلهية رحيمة دائمًا، ظهر لهؤلاء فى آخر النفق بريق من الضوء، يتمثل فى جمعيات دور الرعاية الاجتماعية التابعه لوزارة التضامن الاجتماعى، والتى أخذت على عاتقها الاهتمام بهم ماديًا واجتماعيًا؛ لتوفر لهم «الحياة» بدلاً من حياة الشوارع.
وداخل دار «الخير» للرعاية الاجتماعية، قالت هانم السيد رئيس الدار: انها تشرف على 14 مشردة، وتستقبل مختلف الحالات بمنتهى الإنسانية وتحتويهم ةدران وتبدأ أولا بالنظافة، ثم تأتى مرحلة التأهيل النفسى والمعنوى وبالطبع بعض الحالات تكون لديها خلفية مع الممنوعات، وعليه يتم رعايتها حتى تتخطى هذه المشاكل، لتشعر أن الدار هى بيتها.
أولى الحكايات الإنسانية مع «سيدة فاروق»، امرأة تبلغ من العمر 64 عاما، وهى مطلقة ولا تعمل وغير متعلمة ولديها ثلاثة ابناء لكنهم غير قادرين على رعايتها حيث انهم متزوجون ولديهم اطفال ويرفضون الاهتمام بها نظرا لظروفها الصحية وضعف حالتهم المادية مما جعلها تتسول فى الشارع وكانت تقوم ببيع السبح مع وجود معاش بسيط كانت تتقاضاه يبلغ 300 جنيها، الا ان ابنها كان يتعدى عليها بالضرب، ليأخذ منها اموالها، وعندما رفضت قام ببيع اثاث المنزل وما تبقى قام بتكسيره، مما أدى الى اتفاق ابنتيها على وضعها بالدار دون علم الابن رحمة بها منه.. وعند وصولها تم إجراء فحوصات لها؛ لمعرفة ما إذا كانت تعانى من أى مرض واتضح انها «مثالية» للاصابة بالسكر او الضغط وتم وضع نظام غذائى لها يتناسب مع حالتها الصحية، الا ان حالتها النفسية ظلت «سيئة» لفترة طويلة، مما جعل الدار يخضعها لجلسات نفسى لدعمها وتفريغ وجدانها حتى من الآثار «السلبية»، كما كانت أحدى ابنتيها تقوم بزيارتها فى البداية الا انه بمرور الوقت شعرت «سيدة» بأن الدار هو بيتها وعندما رغبت ابنتها الكبرى بأخذها رفضت وقالت إن الدار منزلها الوحيد .
الحكاية الثانية لـ«هناء مصطفى» التى تبلغ من العمر 40 عاما وهى مطلقة وكانت تعمل «مترجمة»، حيث انها حاصلة على ليسانس آداب انجليزى، وكان زوجها تاجر فحم ويسىء معاملتها، ورغم انجابها طفلين الا انهما موضوعين فى دار رعاية مختلفين.
وعندما اتت إلى الدار تم سؤالها إذا ما كانت تريد اخذ طفليها، وتربيتهما، الا انها رفضت؛ لأنها لا تمكلك مكاناً لتذهب إليه بعد طردها من منزل الزوجية، كما أنها لا تملك مالاً، وليس لديها اقارب او أخوة.. ورغم علمها من قبل الا انها تعانى من حالة من عدم الاتزان، وتم عرضها على طبيب مختص، وتشخيص حالتها على انها مصابة بـ»انفصام» فى الشخصية، كما انها تعانى من هلاوس سمعية وبصرية وعدم تركيز وتشتت الانتباه، لذا قام الدار برعايتها حتى لا تسوء حالتها اكتر .
أما الحكاية الثالثة بطلتها «فاطمة أحمد»، والتى تبلغ من العمر 76 عاما، وهى أرملة وليس لديها أى عائل، وعندما جاءت الى الدار عن طريق فريق «التدخل السريع» تم الكشف عليها، واكتشاف إصابتها بـ التهابات فى خلايا الجلد، حيث قامت الدار باحتوائها، وشعرت داخلها أنها فى بيتها، ولأول مرة منذ فترة طويلة تنام فى سرير دافىء وسط عائلة جديدة احتضنتها، بعد ان تخلى عنها الجميع؛ لتشعر ان الدنيا ما زالت بخير.. «فاطمة» أخيرًا وجدت من تستند عليه فى ظل ضعفها، وتقدمها فى السن، ولقيت فى الدار الرعاية الصحية والنفسية، وقبل كل شىء «الإنسانية»، خاصة أنها لا تتذكر الكثير عن سنوات حياتها، أو حتى اسماء ابنائها الخمسة الذين توفوا، الا انها بارعة فى الخياطة، وراضية بوضعها وضعف ذاكرتها، رغم آثار الجروح والحروق المنتشرة بجسدها، كما أنها تتمتع بروح «المرح والدعابة»، وتحب الاستماع للأغانى.
الحكاية الرابعة من نصيب «فوقية عبدالكريم»، البالغة من العمر 74 عامًا، وقد وصلت الدار عن طريق فريق التدخل السريع، وتعانى من «المياه البيضاء» على العين.
بعد وفاة زوجها، تركت ابناءها مع والدتها، وسافرت للعمل بالخارج، وكانت ترسل اموالها إلى الابناء بهدف شراء منزل، ولكن كانت المفاجأة بعد عودتها أنها وجدت ابناءها استولوا على أموالها، وطردها من منزل والدتها، ولم تجد لنفسها أى «مأوى»، رغم أنها تحتاج إلى رعاية ومتابعة «يومية»، وأخيرًا وجدت فى الدار الأمان والاستقرار الذى حرمت منه.
****
علماء الاجتماع يشيدون بـدور الدولة
حماية المجتمع..يبدأ من الفرد
أكد خبراء علم الاجتماع، أن «التكافل المجتمعي» بين أفراد المجتمع، يساهم فى حمايته من المعوقات والتحديات التى تجبره على اللجوء للهروب من الحياة وسط أسرته للشارع، بعد إصابة عقله وشروده نتيجة أزمات متلاحقة يمر بها ويتألم بسببها، فيرفض عقله الاستمرار فى مواجهة تلك الأزمات وهنا يأتى دور مؤسسات المجتمع المدنى والدولة لعلاج الأسباب الحقيقية التى ألقت به للشارع، قبل علاج حالته النفسية، وقد تأتى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية فى المقدمة علاوة على أن انحدار القيم والأخلاق.
تؤكد الدكتورة نادية رضوان، استاذ علم الاجتماع بجامعة بورسعيد، أن ذوى الحالات النفسية السيئة قد تصل بهم لدرجة «المرض النفسي»، ولذلك يجب التعامل معهم بفاعلية، وتوفير ملاذ آمن لهم لعلاجهم وحمايتهم من المجتمع ومن أنفسهم .
ترى أن الدولة، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، ملزمة بتقديم الدعم لهذا المواطن، من خلال منحه الأمان فى المجتمع، وتوفير مصدر الرزق المناسب له، مشيرة إلى أهمية أن يكون لدينا الوعى الكافى بهذه المشكلة,
تضيف: أصبحنا، كمجتمع، نعانى من انحدار شديد فى القيم والأخلاق والسلوكيات، والبعض منا لم يتحمل هذا الانحدار، فيضطر للهروب للشارع بعيدًا عن حياته التى يعيش فيها، وهنا لابد أن يكون لدينا الوعى فى عودة القيم والسلوكيات والأخلاق لأجيالنا القادمة وعودة التعليم بشكله الصحيح؛ لاستعادة الثقافة الصحيحة للمجتمع .
أما الدكتور إبراهيم البيومى غانم، استاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، يقول إن هؤلاء الأفراد، سواء من الرجال أو النساء، غالبيتهم فى سن تجاوزت الشباب وهذا يعنى انهم قد تعرضوا لمشاكل اجتماعية واجهتهم فى مقتبل حياتهم.
يضيف: هذه ظاهرة كانت موجودة حتى 2010 وكنا نتابعها عن قرب ولكن فى السنوات الأخيرة انحسر ظهورها بشكل واضح بفضل الجهود الكبيرة التى تقوم بها وزارة التضامن ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والمؤسسة الشرطية وغيرها ذلك من الجهات المعنية.
يشير إلى وجود مشكلة كبيرة تواجه الدولة فى رعاية هؤلاء، تتمثل فى عدم وجود أوراق هوية تثبت شخصيتهم، مناشدًا المؤسسات الصحية والأمنية بأن تتعامل معهم، وتقدم الرعاية لهم، بغض النظر عن فكرة الأوراق والوثائق التى تثبت شخصياتهم، حتى لا يعودوا للشارع، ويشكلوا عبئا إضافيًا ومصدرًا للخطورة على الدولة والمجتمع.
***
.. وعلماء الدين يطالبون بالتكاتف والعودة إلى القيم والأخلاق الحميدة
تراحموا.. يرحمكم الله
طالب علماء الدين بالعودة إلى القيم الدينية والأخلاق الحميدة التى تمثل العلاج الأول والأمثل للمرض النفسى، والحد من انتشار هذه الظاهرة، مؤكدين ضرورة القضاء على جذور هذه المشكلة، من خلال تضافر جميع الجهود الرسمية وغير الرسمية، حتى نضمن الأمن والأمان للمجتمع، وتحقيق الآمال المنشودة لأمتنا العظيمة.
يرى الدكتور عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر، ضرورة وضع المشردين إما فى مصحات أو مستشفيات عامة؛ لبحث حالاتهم بالتفصيل، فإن كان هذا «تسول» فينبغى على الدولة أن تضرب على يد المتسول بيد من حديد؛ لأن النبى صل الله عليه وسلم بين أن المسألة تمثل «نقطة سوداء» فى وجه صاحبها، وإما أن يكون مريضا والدولة مسئولة بمرضه وعلاجه.
ويضيف: مما لاشك فيه أن الدولة الآن تعطى معاشات شهرية لهؤلاء حتى تغنيهم عن هذا الهيام فى الشوارع، وإن كانوا مرضى فعلى الدولة أن تعالجهم لأنها مسئولة عن كل إنسان فيها.. أما عن مشاكل الأسر والعقوق والجحود فلابد أن يحسن الآباء تربيته تربية سليمة لكى يطعم نفسه من حلال ولا يتحول إلى عاق بهم فيما بعد ويكون مصيره للشارع والمشاحنات بين الأخوة تدفعهم للإلقاء بهم فى الشارع.
ويذكر الدكتور مبروك عبد العظيم، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة بنى سويف وعميد كلية الحقوق سابقا، أن الإنسان معرَّض فى حياته للمصائب والفتن والمحن، وإن أقوى المصائب وأكبر الفتن وأشد المحن إذا قورنت بغيرها .
ويضيف: ما تبذله الدولة بكافة مؤسساتها من جهود مادية ومعنوية ملحوظة تجوب كافة المحافظات فى الاضطلاع بمسئولياتها تجاه هذا الملف، من خلال التطبيق النموذجى «تكافل وكرامة» انطلاقا من قول النبى صلى الله عليه وسلم ({ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } لاستنقاذ ضحايا التشرد من بين أنيابه ومخالبة وسرعة إسعافهم وعلاجهم واحتوائهم.
ويؤكد أن كافة أفراد المجتمع فى كافة قطاعاته لهم دور فى مواجهة ظاهرة التشرد التى كادت أن تتحول إلى كارثة التناغم فيما بينهم فى صورة جهود فردية وجماعية بمظلة شرعية قانونية.