للمقهى عالمه الخاص، فالرواد يعرف بعضهم البعض، والحكايات تدور من طاولة لأخرى فى جميع الأمور، وللمقاهى الأدبية فى مصر أثر فعال منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن الحادى والعشرين ولم تكن مقاهى الاقاليم مختلفة فى تأثيرها عن «مقاهي» القاهره.. ومثل «مقهى أنطون» التى كان يجلس عليه جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده وسليم تكلا- مؤسس الأهرام- والشاعر محمود سامى البارودى وعبدالله النديم ، كان الحال خارج القاهرة.. تعالوا نذهب فى التاريخ خارج العاصمة:
ومن أشهر مقاهى الثغر مقهى «بترو» بسيدى بشر والذى أنشئ فى منتصف القرن التاسع عشر وشهد أحداثا اجتماعية وسياسية مهمة وجلس عليه كبار المفكرين والمبدعين ورجال السياسة والمال، على إحدى طاولاته جلس «سليم تكلا» ليخطط لأول أعداد جريدة «الأهرام» التى صدرت فى (27) ديسمبر (1875)، وكان قد جاء إلى مصر قبل ذلك بأشهر قليلة مهاجرا من الشام، تراوده فكرة إنشاء جريدة عربية بعد ما علم أن فى مصر نهضة ثقافية وفكرية بعدما كثرت فيها المدارس والمعاهد والمنتديات، وبالفعل حصل على ترخيص من الخديو إسماعيل الذى طلب منه فى خطاب رسمي: «إنشاء مطبعة حروف تُسمى الأهرام تشمل على التلغرافات والمواد الزراعية والمحلية، وكذا بعض كتب كمقامات الحريري، وبعض ما يتعلق بالصرف والنحو واللغة والطب والرياضيات والأشياء التاريخية والحكمة فى النوادر والأشعار والقصص الأدبية».
وبالفعل صدرت «الأهرام» فى أعدادها الأولى بالإسكندرية كجريدة أسبوعية تباع بنصف فرنك «ما يعادل قرشين بعملة ذلك الزمن».
وعلى مقهى «بترو» كان يجلس توفيق الحكيم ونجيب محفوظ فى أشهر الصيف، حيث كانا يفدان إليه فى الحادية عشرة صباحا فيلتف حولهما الأدباء القادمون من القاهرة لقضاء الأجازة الصيفية مثل ثروت أباظة وعبدالرحمن الشرقاوى وغيرهما من كبار الأدباء، وكلك كان يلتف من حولهم أدباء الإسكندرية من مختلف الأجيال، وبعد هدم مقهى «بترو» انتقلت الندوة إلى الشانزلزيه بمنطقة «لوران» ثم انتقلت إلى البوريفاج بنفس المنطقة، وأخيرا بسان استيفانو إلى أن انتهت هذه الندوة لأسباب كثيرة بعد هدم سان استيفانو
المسيرى
هذا حال العاصمة الثقافية فى مصر، أما فى الأقاليم فقد ظهرت بعض المقاهى التى لعبت دورا بارزا فى الحياة الثقافية والسياسية، وكان أشهر هذه المقاهى مقهى «المسيري» بدمنهور لصاحبها الأديب «عبدالمعطى المسيري» والذى كان بمثابة جامعة أهلية تخرج فيها عدد كبير من أبرز الأدباء والفنانين والشعراء الذين ساهموا- بقدر كبير- فى منظومة الثقافة العربية من أمثال محمد عبدالحليم عبدالله- وأمين يوسف غراب، ومحسن الخياط ويوسف القعيد، وخيرى شلبى ورجب البنا ومحمد صدقى وفتحى سعيد وغيرهم.
وينسب المقهى لعبدالمعطى المسيرى المولود فى عام (1909) فى إحدى حارات دمنهور لأب متواضع الحال يملك مقهى صغيرا، فاضطر إلى أن يعمل فى المقهى منذ الصغر وقد نما وعى عبدالمعطى المسيرى من خلال عالم المقاهى الصاخب حيث زخم مفردات الحياة، فالمقهى كان مصبا لكل أنواع البشر باختلاف معتقداتهم وميولهم وانتماءاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتفتح وعى الصبى على حكايات الوطن والأحزاب والإنجليز والثورة وغيرها من الأشياء التى أيقظت قيمة الانتماء بداخله.
ومن أهم الأشياء التى جعلت المسيرى يهتم بالأدب تلك الطقوس التى كان يقوم بها الشاعر أحمد محرم فى ركنه الخاص بالمقهى حيث يكتب ويعد مادة الجريدة التى كان يصدرها- فى ذلك الوقت- فكان المسيرى يعتمد تجهيز المكان بنفسه للشاعر الكبير ويظل قريبا منه.
المكتبة والنصبة
وقد اختار المسيرى المكان المجاور للنصبة وخصصه للكتب والمجلات والجرائد.
وبدأ التفاعل بين رواد المقهى من خلال إهداء الكتب أو الشراء أو الاستعارة، وبدأ أعلام الفكر المصرى يتوافدون على المقهى ومنهم يحيى حقي، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم ومصطفى صادق الرافعي، وزكى مبارك ومحمد حسن الشجاعى وغيرهم، وفى العدد الأول من جريدة «المجلة» التى كان يصدرها يحيى حقى يقول حقى فى المقالة الافتتاحية «ذلك المثقف أو الأديب الذى يفكر فى زيارة مدينة دمنهور- مدينة التاريخ القديم- والتجار الشطار لكى يتعرف على صور الحياة وعادات الناس هنا، لابد وأن يجلس على رصيف مقهى المسيرى الذى يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين». ويقول الصحفى الكبير رجب البنا فى مقال نشر فى الستينيات «وعبدالمعطى المسيرى ينتمى إلى طائفة سقراط فأعظم ما تركه ليس كتبه، ولكن عظمته تكمن فى أنه كان صاحب مدرسة فى دمنهور، فمقهاه- كانت حقيقة- مدرسة وتلاميذ المسيرى اليوم فى كل مجلة وصحيفة وفى الإذاعة والتليفزيون.
وبالفعل كان عبدالمعطى المسيرى محامى المواهب الفنية والأدبية فى الأقاليم، قبل أن يعرف ما يسمي- الآن- بمؤتمر أدباء الأقاليم، وله مقال نشر فى الخمسينيات فى جريدة «المساء» بعنوان «الميثاق والثقافة فى الريف» ناقش فيه دور المثقف والفنان الريفي، وتساءل خلاله- عن متى تكون عاصمة كل إقليم قاهرة كبري؟
ويقول الروائى أمين يوسف غراب فى مقال نشر فى جريدة «وطني» فى يوليو (1961) «رصيف مقهى المسيرى كان ملجأ الأدباء والكتَّاب، كان البوتقة التى صهرت عقلى ووجدانى وتفكيرى وشعورى بفضل جماعة الأدباء والكتاب هناك» ويقول المفكر الكبير محمود أمين العالم: «صاحب المقهى الأديب عبدالمعطى المسيرى استطاع بكتابه فى القهوة والأدب الصادر عام (1936) أن ينتزع من رأسى فلسفة أفلاطون ومثالياته.
العميد والمسيرى
بدأت العلاقة بين الدكتور طه حسين وعبدالمعطى المسيرى بعد المقالة التى نشرها د.طه حسين بجريدة «الوادي» وانتقد فيها الأدباء الشبان فى ذلك الوقت خاصة الشاعر إبراهيم ناجى والقاص إبراهيم المصري، فقد رأى المسيرى أن نقد العميد قد جاء محبطا فعقد فى مساء اليوم نفسه ندوة على رصيف المقهى بدمنهور، ناقش خلالها ما كتبه د. طه حسين، وفى اليوم التالى كتب مقالة بعنوان «فى الثقافة» يرد بها على طه حسين وأرسلها إلى نفس الجريدة، وفوجئ بنشرها بالإضافة إلى مقال لطه حسين بعنوان «فى تنظيم الثقافة» فى بابه المعروف «حديث الأربعاء» بتاريخ (19/9/1934)، أثنى فيه على الأسلوب الادبى للمسيري، وبعدها كتب «العميد» المقدمة لأول إنتاج أدبى للمسيرى وهو كتاب «فى القهوة والأدب» الذى ترجم إلى العديد من اللغات، وأثنى عليه «أغناطيوس كراتشفوفسكي» عميد كلية الآداب الشرقية بموسكو فى الثلاثينيات من القرن الماضي.
أما عن علاقة الأدباء بالمقهى فيقول الروائى الكبير خيرى شلبي: «أذكر أننى قرأت فى مقهى المسيرى أول مرة تحقيقا أدبيا كتبه القاص محمد صدقى فى أوائل الخمسينيات بعنوان أدباء على رصيف المقهى وكنت فى وقت الإجازة الصيفية فى قريتي، وكنت قد سمعت نبأ المقهى قبل ذلك بقليل من خلال أستاذين لى فى معهد المعلمين كلاهما من مدينة دمنهور نفسها، وهما الأستاذ الأنصارى محمد إبراهيم- مدرس اللغة العربية-، الذى كان مفتونا بالأدب القصصي، فيتوهج وهو يشرح لنا رائعة محمود تيمور أبو الهول يطير التى كانت مقررة علينا وكان ينتهز الفرصة- دائما- لحدثنا عن أدباء دمنهور والبحيرة بشكل عام، وعن مقهى المسيرى بشكل خاص، التى رفع أدباؤها شأن دمنهور، فلما قرأت تحقيق الأديب محمد صدقى بهرنى وقررت أن أكون من رواد المقهى فذهبت بالفعل وقدمت نفسى للأستاذ عبدالمعطى المسيرى الذى استقبلنى بحفاوة كبيرة جدا، وأوسع مكانا لى بجواره، وراح يسألنى بعض الأسئلة عن هوايتى ودراستى وعن آخر كتاب قرأته ورأيى فيه وعن كُتابى المفضلين ولماذا عشقت فن القصة بالذات.
منذ سنوات بعيدة وقد تعمقت صلتى بالأستاذ والمقهى وعرفت فيها أبا ومعلما وفيلسوفا.
أذكر أننى لم أتلعثم فى الإجابة عليه لأنه شجعنى بحب شديد وأعطانى الألفة والحميمية فازال الغربة عنى فى الدقائق الأولى فكأنى أعرفه منذ سنوات بعيدة.. «ويضيف خيرى شلبي» ولما عرف الأستاذ اسم بلدتى البعيدة التابعة لمحافظة أخرى نظر فى زهو كبير وقال: «المقهى وصل صيته إلى بلدتكم، إننى والله مسرور بانضمامك إلى رواد المقهي».. وقد تعمقت صلتى بالأستاذ وبالمقهى فعرفت فيها أبا ومعلما وفيلسوفا ترتاح له النفس وتطمئن وعرفت فى المقهى بيتا رحيبا آمنا يحتضن أحلامنا وينميها ويحوَّلها إلى حقائق.
وبالفعل كان المسيرى أبا لكل الأدباء الذين ارتادوا مقهاه فقد كان حركة الوصل بين الأعضاء بعضهم البعض، وكان ينزعج جدا إذا اكتشف أنه نسى أن يعرف أحدا بأحد وكأنه ارتكب جرما عظيما فكان بأخلاق الفرسان يسرع فى الحال بالاعتذار فى رقة شديدة، ثم يلخص شخصية كل أديب للآخر تلخيصا دقيقا فيه ما يحب الواحد أن يعرفه عن الآخر، وإذا ترك أحد الأدباء كتابا لصديقه فإن المسيرى كان يوصله إليه بود بالغ.
أبوة كبيرة
ومن مظاهر أبوته الفياضة أنه كان يتابع أخبار الشباب المبدع باهتمام يفوق اهتمامه بأى شيء آخر فى حياته فكان أسعد خبر يمكن أن يتلقاه فى حياته هو ما اختص بنشاط الشبان، فإذا ما نشرت مجلة ما تحقيقا حول الزجال «حامد الأطمس» تراه يطير فرحا وإذا استمع إلى قصيدة نشرتها الجمهورية للشاعر فتحى سعيد يقول «ما أعظم هذه الجريدة التى تهتم بأدب الشباب، وإذا استمع إلى أغنية للشاعر سعيد أبو النصر فى أجازته الإذاعية تراه يدعو الله للشاعر أن يفك نحسه ويأخذ بيده».
ويذكر للمسيرى جرأته وشجاعته وذلك عندما طالب أيام حكم الملك فاروق بتغيير شارع فؤاد- وهو الشارع الرئيسى فى دمنهور- إلى اسم أحمد عرابي، وقد كان وقتها عضوا بالمجلس البلدى لمحافظة البحيرة، وقامت الدنيا ولم تقعد، وشاءت الأقدار فقامت ثورة (23) يوليو (1952) ووافقت حكومة الثورة على طلبه فقامت بتغيير اسم الشارع إلى شارع أحمد عرابى تخليدا لذكرى الزعيم المصرى الكبير.
واهتمام المسيرى بالأدب لم يكن مقتصرا على اهتمامه بأدب الأقاليم فى الوجه البحري- فقط- بل امتد أثر هذا الاهتمام إلى محافظات الصعيد أيضا، ومن المواقف العجيبة فى حياة المسيري، أنه بعث للزعيم جمال عبدالناصر رسالة يشكو فيها عدم الاهتمام بثقافة الأقاليم ومبدعيها وقصر الاهتمام على القاهرة وأدبائها، وقال له فى الرسالة: «لابد من تفتيت الإقطاع الثقافى المسيطر فى القاهرة».
فكان أن أرسل إليه جمال عبدالناصر، أنور السادات- عضو مجلس قيادة الثورة- حينذاك- لكى يتعرف على مشاكل أدباء دمنهور الثقافية، وقد زار السادات المقهى وحضر إحدى الندوات الثقافية التى أقيمت خصيصا بهذه المناسبة وسلمه السادات رسالة من جمال عبدالناصر يعبر فيها عن مدى إعزازه وتقديره للدور الرائد الذى يقوم به عبدالمعطى المسيري.
بورصة الإسكندرية والقاهرة من «المقهى»
تعتبر البورصة المصرية واحدة من أقدم البورصات التى تم إنشاؤها فى الشرق الأوسط، حيث تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر عندما تم إنشاء بورصة الإسكندرية فى عام 1883، وتلتها بورصة القاهرة عام 1903، وأصبح لكل منهما كيان مستقل خلال أربيعنيات القرن العشرين، حيث صنّفت بورصة الإسكندرية فى المركز الخامس على مستوى العالم.
ومن الثابت تاريخيا انه خلال القرن التاسع عشر كان السوق الآجل بالإسكندرية من أقدم الأسواق الآجلة فى العالم، وتمت أول صفقة قطن محلية مسجلة فى عام 1885 بمقهى أوربا السكندرى بميدان «Des Consuis» والذى سمى لاحقاً ميدان محمد علي، حيث كان تجار القطن يجتمعون ويعقدون صفقات قائمة على العرض والطلب بشأن القطن طويل التيلة «كرنك ومنوف» أو القطن قصير إلى متوسط التيلة «أشموني، جيزة وزاجورا» وعلى مدار السنوات امتدت تلك الصفقات لتشمل نوعيات بذور القطن المختلفة مثل: «هل، عفيفى وسكلاريدز».
كان المتممون الأولون لصفقات القطن الأولون ينتظرون وصول صحيفة الأنباء من أوروبا لكى ترشدهم فى عملياتهم فى المستقبل، وكانت السمعة الطيبة تؤثر على كل حركة، فقد نال مزارعو القطن الذين كانوا يقومون بتسليمه فى الموعد المحدد ثقة المصدرين ومن ثّم كانوا يتسلمون طلبات كبيرة فى الموسم التالي، فكان احترام المواعيد والمصداقية ذات أهمية جوهرية إذا ما أرد التاجر تحقيق ربح.
ومن المقهى الأوروبى السكندرى انتقل متممو صفقات القطن إلى مبنى مجاور، وعندما بدأ العمل يتزايد أنشئت هيئة الإسكندرية للقطن «سميت لاحقاً بالهيئة السكندرية العامة للغلة أوالـ»AGPA»، بغرض التجارة فى القطن وبذور القطن والحبوب فى الأسواق الفورية والآجلة.. وفى عام 1899 خلال عهد الخديو عباس الثانى انتقلت الـAGPA إلى مبنى جديد، ومن ثّم أطلق عليها البورصة بميدان محمد علي.
وبورصة القاهرة، بدأت بتجمع السماسرة أيضًا فى المقاهي، حتى عام 1903، حينما قرر عدد من أصحاب رؤوس الأموال والسماسرة فى إنشاء بورصة شبيهة ببورصة الإسكندرية خاصة لتداول تجارتهم، بل ووضعوا قانونا ينظم شئونها، وذلك على غرار النقابة التى انشأها سماسرة الأسكندرية سنة 1902، وخرجت البورصة إلى النور فى سنة 1904، وذلك بالاتفاق بين النقابة والشركة، وقد اقتصرت عضويتها على سماسرة الأوراق المالية فقط، أما السماسرة الذين رغبوا فى العمل بتجارة القطن فقد أنشأوا لأنفسهم نقابة خاصة بهم.
فى قرية «زفتي» أعلن يوسف الجندى استقلالها وأقام ما سمى «جمهورية زفتي» إبان ثورة (1919) بقياد يوسف الجندى الذى كان أحد الشباب المقربين من الزعيم سعد زغلول، وقد فصل من كلية الحقوق عام (1914) بتهمة تحريض الطلبة على الإضراب احتجاجا على إعلان الحماية البريطانية على مصر.
وقد بدأ الجندى فى عمل تصور مبدئى لمجلس الثورة الذى كونه من كبار الأعيان فى البلدة وبعض المتعلمين والتجار ومنهم عوض الكفراوي، والشيخ مصطفى عمايم، وإبراهيم خير الدين، وأدمون بردا، ومحمد السيد، ومحمود حسن وغيرهم.
واتخذت لجنة الثورة- هذه- من مقهى «مستوكلي» والذى كان يملكها يونانى عجوز يحمل نفس الاسم مقرا لها، واجتمعت لجنة الثورة وقررت أن تبدأ بوضع يدها على الأجهزة الإدارية مثل محطة السكك الحديد والتلغراف ومركز البوليس/
وجد يوسف الجندى نفسه أمام سؤال مهم كيف لدولته «فى زفتي» أن تواجه مشاكلها الداخلية خاصة المشاكل الاقتصادية؟
فبدأ فى جمع التبرعات من الأهالى والأعيان لتأسيس خزينة للدولة فى زفتي.. بالإضافة إلى أنه كانت هناك حركة تبرعات أخرى جارية لتمويل الوفد، وكان- على حساب ما أورد محمد يوسف الجندى فى سيرته الذاتية- يجيء إلى زفتى كل أسبوع مهندس من طنطا يسلم التبرعات التى تم تجميعها، اسمه عثمان محرم!
وكان قصد يوسف الجندى من ذلك أن يوجد عملا للأيدى الكثيرة التى تعطلت لظروف الثورة، فلا تتحول إلى السرقة والنهب.. فاستخدم الأموال المتجمعة ليوجهها إلى بعض الأعمال المفيدة فتم ردم البرك والمستنقعات التى تحيط بالقرية، والتى يأس الأهالى من مطالبة الحكومة بردمها منذ عشرات السنين، وكذلك تم ردم الشوارع التى كانت تنشع بالمياه إذا حدث فيضان للنيل، كما تم إصلاح الجسور وإقامة مشاريع صناعية.
ومن أجل استكمال المظهر الحضارى تم إنشاء كشك خشبى للموسيقى على ضفة النيل، يشاهده أهل البلدة فى وقت الترفيه والراحة.
وكان لهذه الخطوة صداها على المستوى الدولى وعلى المستوى الشعبى فقد وصلت أنباء «جمهورية زفتي» إلى القاهرة وعبرت البحار والمحيطات إلى لندن، وصارت زفتى حديث القاصى والدانى
لكن بريطانيا لم تسكت على هذا التمرد فأرسلت فرقة عسكرية لتقويض «جمهورية زفتي» والقبض على زعمائها وقد أعلنت القاهرة أن فرقة كبيرة من الجنود الاستراليين سوف تذهب إلى زفتى لتخضع القرية الثائرة، ويشير أحمد بهاء الدين إلى أن رجال الوفد أدركوا مدى الخطر الذى يتعرض له يوسف الجندى ورفاقه فأرسلوا له الرسل والرسائل لكى يعود إلى القاهرة..
أما الجندى فقد نصحه رفاقه بالهروب فاختبأ فى قرية «دماص» لمدة خمسة عشر يوما، عاد بعدها إلى القاهرة ليمارس نشاطه الاجتماعى والسياسي، وليجلس- كل يوم- بعد العصر ليلعب الطاولة ويشرب القهوة فى «جروبي» فى ميدان سليمان باشا، وظل يمارس أدوارا سياسية حتى وفاته فى يوم الجمعة (12) ديسمبر (1941) وكان يبلغ من العمر (48) عاما.
أما عن مقهى «مستوكلي» مقر الجمهورية الشعبية لزفتي، فقد مضت كالأشياء الجميلة واندثرت معالمها، وحل محلها بعض المحلات التجارية.