لا شك أن الاقتصاد العالمى اصبح على المحك بعدما أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يوم ٢ أبريل الحالى هو يوم التحرير للاقتصاد الأمريكى التجارى ليعيد رسم خارطة التجارة العالمية بهدف تقليص العجز التجارى وإنعاش الصناعة الأمريكية المحلية بالإضافة إلى صفقة المعادن التاريخية، فماذا يعنى يوم التحرير للعالم وامريكا،كما يظل السؤال العالق دوما هل تنكفأ أمريكا على نفسها، أو هل هذا يعد بمثابة استغناء أمريكا عن كل ماتستورده من الدول، لقد تاهت التجارة العالمية فى متاهة التعريفة الجمركية بعدما عزم ترامب على استكمال مشواره فى الحروب التجارية ليشمل الجميع .
فقد قرر ترامب أن يبنى اقتصاد أمريكى بطريقة العلاج الجراحي، ويعتقد أنه فى مهمة وطنية بفرض الرسوم أو صفقة المعادن ليرفع رصيده ويرفع الاقتصاد الأمريكى لحالة الطوارئ، لقد أعلن الرئيس الأمريكى عن هجمة مباشرة على الاقتصاد العالمى كله وسوق المعادن فى كل مكان ومن هنا سيحدث فك الارتباط بين الاقتصادات وتعطيل سلاسل الإمداد وأولها سلاسل الصناعة ومن هنا لن يبرح التضخم مكانه لارتفاع الكلفة وسارت هناك حالة من التخبط ستصيب أيضا عالمنا العربى بشكل غير مباشر، ويظل السؤال الأهم.. هل تعم الفوضى الأسواق العالمية على المدى القصير والطويل والقريب مع حالة التحرير للاقتصاد الأمريكى .
الواضح ان ترامب يريد تنويع مائدة الاقتصاد الأمريكى على حساب العالم الذى عكف على تثبيت سلاسل التوريد حتى يأتى ترامب ويلغيها فى يوم واحد دون ان يسأل نفسه هذا السؤال.. هل أمريكا العظمى مستعدة لهذه القدرة الإنتاجية وهل يوم التحرير الأمريكى خطأ فى حق الأمريكيين، فالخطة غير واضحة حتى لوكان يريد استقطاب الصناعات إلى أمريكا فالمكونات والتصنيع فى نقطة واحدة.
حالة الدورة الاقتصادية العالمية أصبحت فى قلب العاصفة وأصبحت البنوك المركزية فى حالة من الحيرة بشأن أسعار الفائدة وتليها المعادن التى تتأثر بالدورة الاقتصادية سواء حالة الركود أو الهبوط ويذهب الجميع إلى الملاذات الآمنة مع حالة التعريفة الجمركية لرجل التعريفات الأشهر عالميا
لاشك ان ثمة دراما اقتصادية جديدة تحاك حبكتها مع عودة العالم والمخطط الترامبى للحديث عن المعادن النادرة الى الواجهة فحرب المعادن القادمة ترسم جغرافيا جديدة للعالم عنوانها البارز المصالح الاقتصادية وهنا وبعد المشادة التاريخية بين الرئيس الامريكى والاوكرانى والتى كانت سبباً فى ان تتجه الانظار عالمياً الى اوكرانيا ليس فقط كساحة للصراع الجيوسياسى وانما كمصدر هائل للثروات الطبيعية مع تصاعد الضغوط الامريكية على كييف لتوقيع اتفاق يمنح واشنطن اليد العليا فى استغلال الموارد غير المستغلة فى البلاد حيث يفتح الاتفاق الذى يسعى اليه ترامب الباب أمام الشركات الامريكية للوصول الى احتياطيات النفط والغاز بالإضافة الى المعادن الحيوية والنادرة فى خطوة تثير كثيراً من التساؤلات حول مدى استقلالية القرار الاقتصادى الاوكرانى فى خضم المعادلات السياسية المعقدة غير ان اللافت للنظر فى هذا الاتفاق هوالتركيز الامريكى على المعادن الارضية الثمينة والنادرة التى تعد العمود الفقرى لصناعات التكنولوجيا المتقدمة بدءاً من الهواتف المحمولة والسيارات الكهربائية الى المعدات العسكرية الثقيلة والمتطورة تكنولوجياً وهذه الموارد التى تتسابق عليها القوى الكبرى تضع اوكرانيا فى قلب طاحونة المعركة الاقتصادية العالمية حيث تسعى الولايات المتحدة الامريكية لتعزيز سلاسل الامداد الخاصة بها وتقليل الاعتماد على عملاق المعادن النادرة وهى الصين المنافس الأبرز والأهم لامريكا فى هذا المنحنى مما يمنح البعد الاقتصادى لهذا الصراع العالمى الذى اشتدت فيه المبارزة بين الصين وأمريكا بدأها رجل التعريفات الجمركية بالرسوم الحمائية وواصل للاستيلاء على المعادن الثمينة مما يعطى الصراع صورة أكثر تعقيداً.
اهتمام ترامب بهذه المعادن النادرة ليس وليد اليوم وانما طبقاً لصحيفة فانيشال تايمز البريطانية فان ترامب فى عام 2017 وخلال ولايته الاولى وقع امراً تنفيذياً بشأن تأمين امدادات المعادن الاساسية واعقبها فى عام 2020 بأمر تنفيذى آخر يركز على هيمنة الصين المنافس الاول فى توريد العناصر الارضية النادرة،ومن هنا برز لفت النظر ان جزيرة جرينلاند هدف اقتصادى لترامب لما لها من اهمية اقتصادية بسبب الموارد المعدنية وقد شكلت «نظرية الاستحواذ القهري» على أكبر حصة من سوق المعادن النادرة فى العالم.
سلاسل التوريد
يرى خبراء الصناعة ان هيمنة الصين على تنقية ومعالجة هذه العناصر تشكل تهديداً حقيقياً على الولايات المتحدة الأمريكية والشركات غير الامريكية وكل سلاسل التوريد الخاصة بها وهذا يدفعنا الى السؤال العالق دوماً ما هى هذه المعادن النادرة، لاشك ان المعادن الارضية النادرة تتكون من حوالى 17 عنصراً وهى عناصر ضرورية للتحول للطاقة المتجددة وتستخدم فى صناعات الهواتف الذكية وطواحين الهواء والمحولات المحفزة فى السيارات ورغم وجودها فى بعض دول العالم ولكن وجودها فى بعض الصخور النارية والرواسب الحجرية فى جميع انحاء العالم جعل استخراجها مكلفاً للغاية وعملية معقدة للمعالجة
وقد استطاعت الصين ان تتفوق فيها كما انها ضرورية لإنتاج المغناطيسيات الدائمة فى الطائرات المقاتلة والصواريخ ولذلك تظهر قوائم الاتحاد الاوربى والولايات المتحدة الامريكية لتؤكد أهمية وجود النيكل والليثيوم والكوبالت واليورانيوم وإذا استعرضنا الخريطة الخاصة للمسح الجيولوجى الامريكى نجد أن الصين هى الوحش الكاسر لانها تمتلك أقل قليلاً من نصف احتياطى العالم من المعادن النادرة الى جانب البرازيل والهند واستراليا التى تعد أيضاً من النقاط الساخنة لهذه الاحتياطيات.
الهيمنة الصينية
تمتلك الصين اكبر منجم يسمى باياناوبو فى منطقة منغوليا الداخلية الصينية وهوأكبر منجم ينتج المعادن النادرة بالإضافة الى الحديد ومع ذلك هناك معضلة أمام العالم وهى ان معظم المناجم قد تكون غير قابلة للتعدين اقتصادياً وإلى جانبها المعادن الاكثر شهرة مثل الحديد والفوسفور والمعروف ان المعادن لها خصائص كيميائية متشابهة مما يجعل فصلها ومعالجتها أمر لا يستهان به ومن هنا كان هناك تفوق للصين فى مسألة معالجة المعادن حتى الامريكية،فالعملاق الصينى يستثمر فى تكرير ومعالجة المعادن النادرة منذ 30 عاماً ويسيطر على حوالى 90٪ من القدرة العالمية على المعالجة وفقاً لتقرير وكالة الطاقة الدولية فلديها أمران مهمان فى هذه الصناعة المكلفة وهما «الصهر والتكرير» وكل الدول التى لا تمتلك القدرة على الصهر والتكرير ترسل انتاجها الى الصين حتى الولايات المتحدة الامريكية ويدرك ترامب ان صناعة المعادن تواجه مخاطر بسبب هيمنة الصين على سلاسل التوريد الخاصة لهذه الصناعات.
لقد ادرك العالم مؤخراً وأولهم أوروبا وأمريكا وجود هذه «الثغرة الاستراتيجية» التى تتطلب رأس مال كبير لبناء نظام للمعالجة والتكرير الوسيط الذى يشمل عمليات التخزين والنقل الذى تمتلكه الصين ولقد واصلت الصين انتاج هذه المعادن النادرة على نطاق واسع من منطلق الهيمنة بالرغم من انخفاض الاسعار ولكن مع تفوق العرض على الطلب ولكن بدأ نموالعرض يزيد على الصين منذ عام 2020 ومن المتوقع الزيادة المضطرة حتى عام 2027.
القلق الأوروبى
شعرت اوروبا بالقلق من هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة ولكنها لم تستطع ان تفعل شيئاً خصوصاً ان هذه المعادن لها اهمية فى عديد من القطاعات المرتبطة بالامن القومي،وهناأصبحت اوروبا فى مرمى الصين بالنسبة للمعادن خصوصاً الشركات الاوروبية التى تحتاج الى المعادن كشكل أساسى فى صناعاتها ومع ذلك فشل الاتحاد الاوربى منذ فترة فى محاولة السيطرة على مسألة المعادن ومازال لا ينتج شيئاً من المعادن الارضية ويستورد الاتحاد الاوروبى حوالى 98٪ من مغناطيساته من العناصر الارضية النادرة من الصين وفقاً لبيانات المفوضية الاوربية واظهرت الصين كيف يمكنها استغلال هيمنتها على السوق فى ديسمبر من عام 2023 عندما حظرت تصدير تكنولوجيا معالجة المعادن النادرة ورغم هيمنة الصين أكثر من روسيا واوكرانيا واستراليا ويعلم الجميع ان نقص المعادن النادرة يمثل عائقاً امام برامج الانتقال الى الطاقة النظيفة والاقتصاد الاخضر وايضاً إبطاء إنتاج السيارات الكهربائية والطائرات خاصة روسيا التى تحتكر معدن التيتانيوم المستخدم فى صناعة السيارات ولقد اتخذت الصين وروسيا عدة اجراءات لتقييد تصدير هذه المعادن الاستراتيجية حيث قررت الصين منع تصدير معدن الفاليوم والجرانيوم وكلاهما عنصر حيوى فى صناعة الرقائق الالكترونية ومن هنا بدأت امريكا والاتحاد الاوربى البحث عن معادن بديلة أو مصادر بديلة للمعادن النادرة مثل فيتنام والبرازيل واستراليا واوكرانيا .
ومن هنا عندما حان وقت التوقيت الترامبى حرص على عقد اتفاق طويل الامد مع اوكرانيا لاستغلال الثروات المعدنية الاوكرانية خاصة ان اوكرانيا تمتلك احتياطياً يقدر بنحو 19 مليون طن من الجرافيت المستخدم فى تصنيع البطاريات والسيارات الكهربائية والصلب والمؤتمرات الكهربائية والمفاعلات النووية كما تزخر اوكرانيا بمعادن اخرى مثل النيكل والكوبالت والاربيوم والسكانديوم وتعد اكبر مصدر لليثيوم وتقدر معادن اوكرانيا بــــ 12 تريليون دولار لكن الاهم ان 53 ٪ من هذه الثروات تقع فى مناطق تخضع لسيطرة روسيا مما يزيد المشهد تعقيداً سواء من الناحية الاقتصادية أو الجيوسياسية وهذا يفسر سعى ترامب الى ربط طموحاته بطموحات بوتين وانهاء الحرب الروسية الاوكرانية ليبدأ توزيع الثروات فى عصر النهب الدولى وتشير هيئة المسح الجيولوجية فى اوكرانيا الى انها تمتلك 5 ٪ من المواد الخام الحيوية فى العالم بما فى ذلك ملايين الاطنان من الجرافيت وثلث رواسب الليثيوم فى اوروبا و7 ٪ من امدادات التيتانيوم فى اوروبا كما تحتفظ اوكرانيا برصيد كبير من الاحتياطيات الخاصة من النحاس والزنك والفضة والنيكل والكوبالت ولقد احتلت روسيا مواقع كثيرة تحتوى على المعادن التى لم تستطع اوكرانيا الاستثمار فيها اواستخراجها .
إن المعطيات العالمية تشير الى ان ترامب يسعى للهيمنة على الثروات الطبيعية فى مشهد غير مسبوق باعتباره يقود العالم نحوخارطة إعادة رسم النفوذ الاقتصادى ولقد منحت الجغرافيا مخزوناً هائلاً من المعادن النادرة والتى تستخدم فى الصناعات الاستراتيجية كأشباه الموصلات وهناك اصرار من ترامب على الاستيلاء على هذه المعادن منذ ولايته الاولى وبرزت المعادن فى ولايته الثانية كعامل حاسم فى الصراع الروسى الاوكرانى مما أدى الى اختزال الحرب الروسية الاوكرانية فى صراع المعادن حيث تمتلك اوكرانيا مثلاً هكتارات من الليثيوم فضلاً عن 17 معدناً اساسياً تعد ضرورة أساسية للطاقة المتجددة كالرقائق الإلكترونية والطائرات والصواريخ والعالم يعتمد بشكل اساسى على هذه المعادن الحرجة بشكل متزايد كالليثيوم والكوبالت والنيكل ويبدو ان سياسات ترامب التى سببت كثيراً من التوترات بالاسواق التى اصبحت حبيسة قرارات ترامب تتخوف من زيادة هيمنة الصين على سوق المعادن وهو ما تعتبره واشنطن تهديداً لامنها القومى فالصين كمنتج كبير يستحوذ على نصف الاحتياطيات بل هو يسيطر على 90٪ من عمليات المعالجة وفقا لتقرير وكالة الطاقة الدولية وتلجأ اليها الشركات الامريكية بإرسال معادنها للصين للمعالجة ولم تقف طموحات ترامب عند اوكرانيا بل امتدت الى جزيرة جرينلاند التى يسعى الى ضمها بسبب احتياطياتها غير المستغلة من المعادن النادرة فى إطار محاولة امريكا لتقليص الاعتماد العالمى على الصين فى سوق المعادن .
القدرة على الصمود
وصفقة المعادن ليست فقط اداة للسيطرة الاقتصادية بل وسيلة جديدة لترامب لتعزيز قبضته على الاتحاد الاوروبى الذى يعتمد على استيراد 98٪ من هذه المعادن من الصين مما جعل هذه الموارد محوراً اساسياً فى استراتيجية ترامب حول الثروات فى عصر النهب الدولي
لاشك أن هناك قراءة سلبية لحال الأسواق العالمية وكأن الأسواق لاتلبى النداء وأصبح المستهلك فى أمريكا والعالم وهوعصب الاقتصاد يعانى من السياسات الاقتصادية الحمائية وتراجعت ثقة المستهلكين فحالة التوتر الاقتصادى سادت وأصبح من الصعب وصفها بعد يوم التحرير الأمريكى فالمزاج العالمى وعمليات البيع وأسطح الأسواق بصورة سلبية ضعفت المعنويات الاقتصادية وتاهت العقود المستقبلية القريبة، التسليم نتيجة لسياسات الحمائية وتشابكت المصالح الاقتصادية مع المصالح الجيوسياسية وتأثيرها على أجندة الاقتصاد العالمى ولم تفلح السياسات النقدية التشددية فى دخول الاقتصاد الأمريكى فى دورة جديدة جعلت الاقتصاد الأمريكى يفتقد النمو الاقتصادى فهل يفلح يوم التحرير فى إحداث التوازن الاقتصادى الذى يسعى إليه ترامب الأمر صعب والاوضح أمام الجميع أن المشهد الترامبى فى العالم خصوصاً سوق المعادن النادرة وعلى رأسها النحاس والمعادن الثمينة اثر على الاقتصاد ونموه وأولها أوروبا بسبب الرسوم المضادة التى تعطل تروس التنمية فى العالم وأى تنمية يتحدث عنها العالم واقتصاد أمريكا بين نشوة الرسوم وحافة الركود الاقتصادى وتداعى الأسواق فى حالة من الأداء الباهت وصعوبة التحليل والتنبؤ بالنتائج من صفقة المعادن ويوم التحرير الأمريكى التجارى وما هو حال الدول الناشئة فى معركة التحرير التجارى للاقتصاد الأمريكى وهل الاقتصاد الأمريكى متماسك وهل تنجح طبخة ترامب سواء بالرسوم أو صفقة المعادن تحت مبدأ الضرب بدون ألم وإيجاد مقاربات لا تزيد الضغوط التضخمية المتسارعة وعدم التلاعب بها حتى تستطيع الدول إعادة التمويل فقد يفقد العالم قدرته على الصمود ضد الصدمات القادمة وهذا رأى كريستينا جورجيفا رئيسة صندوق النقد الدولي
ومن هنا العالم مع يوم التحرير الأمريكى التجارى أصبحت الخيارات متباينة وتسعير الأسواق أصبح فيها اهتزازاً للمراكز المالية بعد إصرار وعزيمة ترامب على صفقاته ورسومه وحروبه التجارية وكل شيء له تداعيات.