في العلاقات الدولية يظل تحقيق النجاح وإحداث نقلة نوعية وكسب مساحات جديدة في العلاقات مع الدول الأخرى مرتبطًا بالقدرة على التحرك المدروس والرؤية المستقبلية ومهارة تطويع الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية لصالح الدولة.
بالتأكيد ليس من السهل أن يتحقق ذلك، وعندما يحدث فهو يعتمد على فهم عميق لكل خطوة وإدراك لكل توجه وما ينتج عنه من حصاد أو مكاسب.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية قدم الرئيس السيسى نموذجًا مختلفًا لفكرة التحرك على المستوى الخارجي وكسر الحواجز السياسية والدبلوماسية في العلاقات مع دول العالم، فلم يقف عند حدود العلاقات التي وجدها سائدة عندما تولى المسئولية، وكانت ما بين علاقات تقليدية أو غير موجودة من الأصل مع الكثير من الدول سواء الأوروبية والآسيوية أو حتى الإفريقية رغم ما تمثله القارة السمراء من يعد مهم في الأمن القومي المصري.
كان المبدأ السائد أن العلاقات يجب أن تبتى على مكاسب مباشرة وعاجلة وكبيرة، وكثير من العلاقات تمت التضحية بها نتيجة مخاوف كانت أقرب للأوهام، أو التوقعات أو نتيجة خلافات بسيطة كان يمكن حلها.
لكن الرئيس السيسي عندما تولى المسئولية كسر هذه القاعدة ووضع مبادئ جديدة للعلاقات المصرية الخارجية، فتحت الباب لتحركات على كافة المستويات، وفق هذه المبادئ الجديدة لم تعد العلاقات مرهونة بمكسب سريع وواضح، ولا مبنية على رؤية شخصية، أو مجرد الإرتياح النفسى، إنما تقوم على البناء من أجل المستقبل والمصالح المشتركة والشراكات الاستراتيجية البناءة لصالح الشعوب، مصلحة مصر أولًا.
كما قدم الرئيس مفهومًا مختلفًا وعصريًا للأمن القومي نتج عنه إضافة دوائر جديدة للعلاقات مع الدول والتحرك نحو مساحات جديدة من من الشراكات تتجاوز حدود الإقليم والعواصم التقليدية المعروفة والمرتبطة مع مصر بعلاقات طيبة وتمتد إلى دول جديدة وبملفات وأولويات مختلفة.
ولذلك وجدنا الرئيس يذهب إلى مناطق متنوعة ويزور دولاً لأول مرة يزورها رئيس مصري، ويقيم علاقات مع دول لم تكن في الحسابات المصرية على الإطلاق ولم يكن متوقعًا أن تكون بيننا وبينها أي مستوى من العلاقات حتى أصبح السؤال الذي تسمعه من الكثيرين.. لماذا يسافر الرئيس إلى هذه العواصم ولماذا يستقبل قادتها وما هي طبيعة المصالح التي يمكن ان تكون بيننا وبين هذه الدول.
أسئلة تعكس أولًا عدم استيعاب البعض للمنهج الجديد للدولة لأنه خارج التقليدية، وعدم فهم البعض الآخر لطبيعة العلاقات الدولية في مثل هذا العالم المتغير.
والأهم أنها تعكس أن هذه التحركات الرئاسية لم تكن متوقعة ولا منتظرة من الرئيس، الذي لا يتعامل بالطرق التقليدية ولا يعتمد على الثوابت والوسائل المعتادة، وإنما استحدث وسائل مختلفة تمامًا، وجعل الحاكم هو مصلحة الدولة والشعب.
وفى هذا الإطار لم تعد العلاقات التي تسعى إليها مصر مرتبطة فقط بالتماس الحدودي أو مع الدول التي تجمعنا بها مشتركات تاريخية، وإنما اتجهت إلى مناطق مختلفة لم يسبق التحرك نحوها انطلاقا من أولويات الدولة الاقتصادية والسياسية أيضًا.
فمن الناحية الاقتصادية مصر دولة تحتاج بشدة زيادة معدلات الاستثمار وجذب كبرى الشركات العالمية في كافة المجالات للاستثمار بها، فقد أنجزت مصر البنية الأساسية ووفرت المناخ الجاذب للاستثمار بكافة أشكاله ولم يعد يتبقى إلا أن تحصد ثمار هذا الجهد الذي تم على مدى عشر سنوات وتكلف الكثير، لكن هذا الحصاد لن يتحقق بمجرد أن المناخ أصبح جاذبًا، وإنما لابد من ترويج وتسويق مصر اقتصاديًا للعالم كله وهو ما تقوم به الدولة الآن بكفاءة عالية ويقوده الرئيس بنفسه فلا يترك فرصة إلا ويقوم بالترويج لما تمتلكه مصر من فرص استثمارية واعدة وما ما ما حققته من إصلاحات وما اتخذته من خطوات لدعم الاستثمار، ونتيجة هذا الجهد وجدنا إقبالًا من كبرى الشركات العالمية والمستثمرين على مصر لطلب فرص لإقامة المشروعات، ولمسنا هذا بشكل واضح في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس والتي أصبحت مصدر جذب كبيرًا للاستثمار الأجنبي المباشر.
ليس هذا فحسب بل أيضا ملف السياحة والذي أصبحت مصر مهيئة له بشكل غير مسبوق وقادرة على جذب ملايين السياح.
وهنا لابد من التأكيد على أن الاستثمار وتوفير فرص العمل أصبحت جزءًا مهمًا من العلاقات الدولية، وتبنى عليها الدول أولوياتها في التحرك بل وتقيم على أساسها علاقاتها السياسية، ولهذا كان هذا التوجه من الدولة المصرية متماشيًا مع السياق العالمي.
أيضًا جزء من التحرك غير التقليدي للرئيس الترويج السياسي لمصر، وشرح رؤيتها للقضايا المختلفة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، فالصوت المصرى لابد أن يصل إلى كل العالم والرؤية المصرية لابد أن تكون حاضرة دائما، خاصة أن مصر لديها ما تقدمه، وتمتلك رؤية شاملة لكافة القضايا، لصالح الإنسانية والعالم، هدفها إحلال السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي، وحماية البشرية من مخاطر الكوارث الطبيعية، وكيفية بناء شراكات عالمية في مواجهة القضايا والمخاطر العابرة للحدود مثل الفقر والبطالة والهجرة غير الشرعية وتبعات الصراعات السياسية.
ليس هذا فحسب بل هناك أسباب أخرى تدعم الإصرار على توسيع مساحة العلاقات الخارجية لمصر، ومنها أن هناك قضايا عالمية لا يمكن التعامل معها إلا فى إطار تعاون دولي فعال ومبنى على ثوابت واضحة مثل الإرهاب وقضايا المناخ والتداعيات السلبية للحروب والصراعات التي تتزايد كما أن العديد من القضايا المطروحة على المنظمات الدولية تتطلب توسيع دائرة العلاقات والتفاهمات.
والحقيقة أن مصر والرئيس السيسي استطاع خلال الفترة الماضية تحقيق نجاح كبير في هذا الاتجاه لعدة أسباب:
أولها: أن مصر بالفعل أصبحت تمتلك رؤية ومشروعًا سياسيًا عالميًا متكاملًا يدعو للسلام والتنمية المستدامة وإنهاء النزاعات سلميًا والتعاون بدلًا من الصراعات، كما يحمل المشروع المصرى الدعوة للحوار بين الثقافات وتلاقي الحضارات.
الثاني: أن هذه الرؤية والمشروع المصرى ظهرت الحاجة إليه بشكل كبير وأدرك العالم قيمته مع تزايد الحروب وتحديدًا ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تداعيات يدفع العالم كله ثمنها.
الثالث: أن الرئيس يمتلك قدرة ومهارة عالية في التعبير والترويج للمشروع المصرى كما يستحق وبلغة يفهمها العالم.
وهنا قد يقول البعض أن الدول لا تحتاج ترويجًا سياسيًا وهذا خطأ كبير في ظل العالم الحالي، فالدول العظمي نفسها تروج لنفسها باساليب مختلفة، بل أن الولايات المتحدة الأمريكية أول من روجت لنفسها بأنها دولة الأحلام والمستقبل، والآن تغيرت لغتها التسويقية لتقدم نفسها باعتبارها القوة القادرة على صناعة التغيير العالمي.
فرنسا أيضًا تروج لنفسها كبلد الثقافة والحضارة، والصين تروج لنفسها كفوة قادمة، ومصر تمتلك فعلًا ما يمكن الترويج له ودعوة العالم للتعاطى معه لصالح الإنسانية، ولهذا ففي كل زيارة أو منتدى نجد الرئيس يتحدث عن المشروع المصرى وثوابت رؤيتها ويلقى هذا ترحيبًا كبيرًا.
البعد الثالث في التحركات المصرية غير التقليدية على المستوى الخارجي هو القضية الفلسطينية التي تعتبرها مصر قضيتها الأولى وتتحرك بكل السبل لحشد المجتمع الدولي لمساندة شعبها في الحصول على حقوقه المشروعة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وارتباطًا بهذه القضية تأني أولوية أمن واستقرار الإقليم الذي تعتبره مصر مهمًا للعالم كله.