ما حدث فى امتحانات الثانوية العامة هذا العام يضعنا فى مواجهة أسئلة تتجدد مع كل عام..فكيف يتم تعديل النتيجة بإضافة درجتين لمادة الفيزياء لطلاب الشعبة العلمية فى سابقة هى الأولى فى تاريخ الثانوية العامة فى مصر.. وتلك ليست الواقعة الأولى لأخطاء امتحانات الثانوية 2024، فقد سبق إعطاء الدرجة كاملة لطلاب العلمى كافة فى ثلاث أسئلة كاملة بعد اكتشاف أخطاء فنية فى صياغة تلك الأسئلة بالمادة ذاتها، وقع ذلك للأسف فى عهد الوزير السابق ابن الوزارة الذى عمل مدرسًا لمادة العلوم، وهو ما يؤكد أن الوزير الناجح لا يشترط أن يكون فنيًا أو تكنوقراطيًا بحتًا، فالأهم أن يتحلى رؤية سياسية ويملك إدراكًا عميقًا لطبيعة الوزارة التى يتولاها، ليضع سياساتها ويختار مساعدين تكنوقراط أكفاء ويشرف على تنفيذهم لتلك الرؤية كما يحدث فى البلاد المتقدمة…!
الوزير الجديد محمد عبد اللطيف أصدر قرارًا بإحالة اللجنة المسئولة عن مراجعة امتحان الفيزياء إياه، ونموذج الإجابة بعد سحبه من بنوك الأسئلة بالكامل، للتحقيق بصفة عاجلة بالإدارة العامة للشئون القانونية بالوزارة نظرًا لعدم تحرى الدقة فى نموذج الإجابة.. لكن هذا التحقيق هل يضمن عدم تكرار أخطاء الثانوية العامة وعيوبها من غش إلكترونى فردى وجماعي، جرى توثيق بعضه صوت وصورة، حتى أن وسائل تواصل اجتماعى نشرت نتائج قيل إنها لمدارس كاملة حصل طلابها على أكثر من 90 ٪ ولم يخرج ردٌ رسمى من وزارة التعليم ولا متحدثها الرسمى ليقطع دابر الكاذبين، ويضع حدًا للبلبلة والتشويش التى تنال من نفسية أبنائنا وتزيدهم ألمًا واحتقانًا.
أخطاء امتحانات الثانوية العامة تطرح تساؤلات: هل ما يحدث عندنا فى أسئلة ولجان الامتحانات يبشر بمستقبل أفضل.. هل الامتحانات بشكلها ومواصفاتها وطريقتها الحالية عادلة تقيس بموضوعية ودقة وحياد قدرات طلابنا ومهاراتهم.. أم أنها مع وجود الغش والتسريب تضرب العدالة وتكافؤ الفرص فى مقتل، وتنسف أحلام التطوير والجودة، بدليل أن ثمة ظاهرة بدأت تطفو فى السنوات الأخيرة على السطح، وهى رسوب جانب كبير من طلاب الصفوف الأولى لكليات الطب فى بعض محافظات الصعيد بدرجة تؤكد أن هؤلاء الطلاب نجحوا بالغش وأخذوا أماكن غيرهم فى كليات القمة التى يحلم الطلاب بدخولها..؟!
والسؤال الأهم: هل نجد مثل ذلك النظام، منهجًا وطريقة تدريس وامتحانًا، فى دول تتصدر قائمة جودة التعليم عالميًا مثل فنلندا أو سنغافورة أو اليابان وغيرها من الدول العشر الأولى فى التعليم..وإلى متى نظل رهينة لنظام ثانوية عقيم يستنزف الأسر المصرية ويرهقها ماديًا ونفسيًا فى دروس خاصة وامتحانات تمثل عقدة للطلاب وتعد عذابًا ومعاناة ما بعدها معاناة.
وإذا قارنا «ثانوية» اليوم بما كنا عليه زمان، نجد بونًا شاسعًا، فلم نكن نسمع عن السناتر وأباطرة الدروس الخصوصية التى توحشت بدرج تفوق الخيال حتى بات بعض مدرسى السناتر، وبعضهم من خارج منظومة التعليم أصلاً، صاروا أباطرة يتقاضون أجورًا فلكية ويستحوذون على المال والشهرة ويسوقون الوهم للطلاب الذين ينتهى بهم المطاف أمام امتحانات يمعن بعضهم فى التعقد والإلغاز لدرجة غير مبررة وغير مفهومة.. والنتيجة استدراك بعد ظهور النتيجة وتعديل درجات للطلاب بصورة تضرب مصداقية التعليم والثانوية العامة فى مقتل..؟!
ألم يتخرج فى مدارسنا أحمد زويل وفاروق الباز ومصطفى كامل السيد وهانى عازر ومجدى يعقوب وغيرهم من أساطين العلماء الذين جابوا جامعات العالم وأبهروا الدنيا بنبوغهم وعلمهم..ألم يدرس هؤلاء مناهج صيغت بعقول مصرية، وجرى تدريسها بعقول مصرية وخاضوا امتحانات صاغتها عقول مصرية..فماذاحدث..لماذا لم يصل التطوير للنتائج المرجوة..؟!
صدقونى لو أجرت الجهات المعنية استطلاع رأى أضلاع المنظومة التعليمية فى نظام الثانوية العامة لوجدنا العجب العجاب..؟!
لقد بشرنا الوزير الأسبق د.طارق شوقى وهو عالم حقيقى فى مجاله بانتهاء بعبع الثانوية العامة بشكلها التقليدي، وأن الدروس الخصوصية إلى زوال، وأن الامتحانات فى صورتها الجديدة لن يأتيها الغش من بين يديها ولا من خلفها..فهل تحقق من ذلك شيء..؟!
ثم خلفه فى الوزارة نائبه د.رضا حجازى واستبشرنا خيرًا، فحجازى صعد السلم من أوله، معلمًا تمرس فى دروب المهنة وأروقتها حتى صعد لكرسى الوزارة.. وكنا نظن أن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن الوزير «المتمرس» هو الأقدر على استكمال التطوير وتعظيم المنجزات.. لكن سرعان ما خابت الآمال وتلاشت الأحلام وتحطمت على صخرة العشوائية، وكانت النتيجة ما نراه من أخطاء جسيمة فى الامتحانات والنتائج وأشياء تحدث لأول مرة فى تاريخ الثانوية..أشياء تطعن فى مصداقية التعليم برمته .. فماذا سيفعل الوزير الجديد فى منظومة إذا استمرت على حالها فلن يكون الغد أفضل من اليوم.. وسيظل «التعليم» يراوح مكانه.. وستظل الثانوية العامة مقبرة لأحلام الطلاب ومصيدة لأى محاولة جادة للتطوير..!
لم تعد المدرسة تنهض بوظيفتها فى التربية والتعليم، فطلاب الشهادة الثانوية يهجرون فصول الدرس إلى سناتر الدروس الخصوصية، وهذا الكلام معلوم من الواقع بالضرورة.. حتى بات التعليم «سلعة» و»درجات» وسباقًا للحصول على «شهادات» لا تغنى ولا تسمن من جوع.. «سلعة» تدفع الأسر المصرية «دم قلبها» وتنفق عليها أكثر مما تنفقه على الطعام والشراب والملبس، أملاً فى حصول أبنائها على درجات عالية تؤهلهم لكليات يتخرجون فيها ثم لا يجدون لأنفسهم مكانًا فى سوق العمل التى تحتاج مهارات ومقومات لا تتوفر فى أغلب الخريجين وخصوصًا الكليات النظرية التى بات بعضها عبئًا يخصم من رصيد ومقدرات الوطن والمواطنين.
الحل المؤقت فى رأيى هو تصويب مسار الامتحانات والعناية بوضع أسئلة تكون غالبيتها «مقالية» حتى نتجنب ما وقع من أخطاء غير مقبولة فى امتحانات هذا العام..مع وضع إجراءات احترازية مشددة تضمن منع الغش وتداول الأسئلة إلكترونيًا ولو بقطع الإنترنت سويعات عن المدارس التى تنعقد بها لجان الامتحانات..؟!
هذه إجراءات مؤقتة وليست سياسات تصلح لبناء منظومة ثابتة قادرة على تطوير نفسها أولًا بأول، يشرف عليها مجلس أعلى للتعليم يتخذ قراراته بمشاركة الوزير، أى وزير للتعليم، بحيث لا يترك الوزير لاتخاذ أى قرارات مصيرية تتعلق بمصير الأجيال ومستقبل الوطن، بل يشارك فى صنعها خبراء وكوادر مشهود لها بالكفاءة والنزاهة.
يقولون فى أمثالنا «البعرة تدل على البعير» ولعل المنتج التعليمى أكبر دليل على أننا فى حاجة لنسف الحمام القديم ووضع منظومة تبنى القدرات والعقول وتحفز الطاقات وتساعد عل الإبداع وتغيير ثقافة كليات القمة وعلى رأسها «كليات الطب» التى انتشرت بكثرة فى الكليات الخاصة والأهلية دون وجود مستشفيات أو بنية طبية بمعايير وضوابط تضمن خريجين بجودة مقبولة، فالنتيجة أخطاء طبية كارثية يدفع ثمنها المرضي.
الاستثمار فى التعليم مطلوب لكن التوسع فى الجامعات الخاصة بلا ضوابط ومعايير واضحة سلاح ذو حدين، يجعل التعليم «سلعة» و»شهادة» بلا جودة ولا روح ومضمون.. فهل تتحقق النهضة المنشودة بمثل تلك المنظومة ؟!