اختار رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو، لحكومته ولإسرائيل ومن يدعمونها، التوقيت الأسوأ على الاطلاق لبدء عمليته العسكرية فى مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
وليس هذا الاختيار خطأ نتنياهو الأول بين سلسلة قراراته منذ بدء مواجهة عملية «طوفان الأقصي» فى السابع من أكتوبر الماضى ولن يكون خطأه الأخير ايضا، إذا استمر على رأس حكومة إسرائيل.
أثبت نتنياهو خلال الشهور السبعة الماضية أنه فقد كل المقومات الشخصية للقيادة الرشيدة ودخل فى مغامرة عسكرية غير محسوبة بقطاع غزة، تصور فى بدايتها أنه يمكن أن يحسمها لصالحه فى بضعة أسابيع، فإذا به يغرق فى وحلها سبعة شهور دون أن يحقق هدفاً واحداً، من أهدافه المعلنة فيها.
لقد كان تحديد أهداف الحرب فى غزة خطأه الاستراتيجى الفادح حيث صاغ هذه الأهداف فى القضاء التام على حركة حماس، وضمان عدم تكرار «طوفان الأقصي» ضد إسرائيل إلى الأبد.. وتغيير خريطة الشرق الأوسط بالكامل.
لم يدرك نتنياهو أن القضية الفلسطينية قضية شعب وأرض وتاريخ وحاضر ومستقبل، وأن حركة حماس أو غيرها من الفصائل والكيانات ليست إلا أجزاء من القضية، بقاء أى منها أو غيابها لا ينهى القضية، لأن الشعب الفلسطينى الذى هو الأب الشرعى لكل هذه الكيانات حتى لا يموت ولا ينتهى وجوده إلا مع انتهاء الوجود نفسه.
لم يدرك نتنياهو أن دولة احتلال تغتصب أرض شعب وتذيقه كل يوم ألواناً من العقاب فى واحدة من أسوأ صور الاحتلال وممارساته على مر التاريخ، يمكن أن تنجح فى تعقيم نفسها وحدودها ضد ردة فعل أصحاب الأرض فى يوم من الأيام، إلا بقرار وحيد هو إنهاء الاحتلال.
أما تغيير خريطة الشرق الأوسط بالقوة العسكرية، فقد فشلت فيه امبراطوريات استعمارية كانت اشد قوة من نتنياهو وعصابته.. وأسقطتها إرادة شعوب المنطقة، فرحلت إلى حيث كانت غير مأسوف عليها.
سبعة شهور كاملة، اجتاح فيها نتنياهو بجيشه من أراضى غزة ما اجتاح، ودمر فيها من مبانيها وبنيتها التحتية ومصادر الحياة البشرية ما دمر وقتل فيها من المدنيين الأبرياء العزل رجالاً ونساءً وأطفالاً من قتل فى حرب وإبادة جماعية فاقت هولوكوست هتلر التى يروج لها نتنياهو نفسه فى العالم.. فهل حقق من وراء ذلك شيئاً من أهدافه؟!
هل قضى نتنياهو على حماس، أو هو قادر على القضاء عليها؟!
بدلاً من القضاء على حماس، ازدادت حماس قوة ورسوخاً فى ظل صمود أسطورى للشعب الفلسطينى انتقل من غزة إلى الضفة الغربية بفعل تصاعد اعتداءات جيش الاحتلال والمستوطنين اليومية ضد الفلسطينيين فى الضفة.
لم تعد حماس وحدها فى الحرب.. دخل حزب الله طرفاً.. وظهر الحوثيون فى البحر الأحمر، والمقاومة الإسلامية فى العراق، وغير ذلك من الكيانات والفصائل.
< هل حقق هدفه الثانى وهو ضمان عدم تكرار عملية «طوفان الأقصي» ضد اسرائيل للأبد!!.
لقد كانت عملية «طوفان الأقصي» فى نطاق جغرافى محدود هو المستوطنات الإسرائيلية فيما يسمى «غلاف غزة» ولم تتجاوزها إلى داخل الأراضى الإسرائيلية نفسها إلا قليلاً، ومع ذلك اعتبرتها إسرائيل «عاراً تاريخياً» يتم حساب المسئولين عن التقصير فيه حتى اليوم.
الآن صواريخ حزب الله والحوثيين تصل إلى داخل إسرائيل.. بل وصواريخ ومسيرات إيران تدمر قاعدتين عسكريتين فيها، فى اختراق غير مسبوق من «دولة» لفضاء وأرض إسرائيل، رغم التصدى الأمريكى والبريطانى لها من قواعد الدولتين فى المنطقة.
لقد نجح نتنياهو فى أن يحول إسرائيل إلى ساحة مستباحة لكل أنصار القضية الفلسطينية فى المنطقة.
هل غير نتنياهو خريطة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل؟!
الحق أن نتنياهو غير خريطة العالم والرأى العام العالمى كله لصالح القضية الفلسطينية وضد إسرائيل حتى داخل معقلها التاريخى الدائم وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تحولت القضية الفلسطينية فى سبعة شهور فقط إلى قضية «عولمية» لا هى قضية حماس وحدها ولا حتى الشعب الفلسطينى كله، ولا قضية العرب أو المسلمين بمفردهم.
ان المظاهرات التى تعم عواصم ومدن وجامعات العالم اليوم ظاهرة تاريخية سوف يتوقف الباحثون امامها طويلا فضلا عن اعتراضات واستقالات من افراد ومجموعات داخل مؤسسات الحكم فى أمريكا وأوروبا.
مظاهرات واحتجاجات لاجيال جديدة لم تشهد نشأة الصراع العربى الاسرائيلي، ولا العديد من بدايات النضال الفلسطينى لتحرير الأرض من الاحتلال الاسرائيلي.
مظاهرات شارك فيها شباب من مختلف الاجناس والديانات بمن فيهم يهود، وبطريقة منظمة وليست عشوائية، وفى معاقل العلم والفكر وليس الغوغائية.. إلى آخره.
ولو انفق الفلسطينيون والعرب والمسلمون ما فى الارض جميعا ليؤلفوا بين قلوب هؤلاء المتظاهرين والغاضبين والمحتجين، ما الفوا بين قلوبهم، ولكن ارادة الله قادت جنون نتنياهو إلى أن يكون السبب فى ذلك.
نتنياهو، يتصور أن رفح الفلسطينية هى مركز قوة حماس ونقطة ضعفها فى وقت واحد.. وانها «الصندوق الاسود» للحركة وقياداتها ومعاقلها فوق الارض وتحت الارض واسرارها التى لا يطلع عليها احد، ولذلك جعلها ورقته الاخيرة التى يهدد باقتحامها وفك شفرتها.
لكنه حين قرر أن يفعل ذلك، اختار التوقيت الأسوأ على الاطلاق.
اختار ان يتحدى كل الاصوات العالمية التى تحذر من اى اجتياح عسكرى برى لرفح، محدودا كان ام موسعا لانه سيخلق كوارث انسانية وتكون له تداعيات سياسية وامنية غير مسبوقة ليس على الشعب الفلسطينى فقط، بل على شعوب المنطقة بأسرها.
اختار لبدء عمليته العسكرية نفس اللحظة التى اعلنت حماس موافقتها على المبادرة المصرية والوساطة المصرية القطرية بشأن وقف اطلاق النار والهدنة وتبادل الرهائن والاسرى والخطة الزمنية الكاملة لتحقيق ذلك وشروطها وضماناتها، فأكد نتنياهو بهذا الاختيار انه مصاص الدماء الذى يسعى إلى سحق اكثر من مليون فلسطينى عالقين برفح، بينما تلوح حماس له بغصن الزيتون.
اختار نتنياهو ان يطلق عمليته العسكرية فى رفح الفلسطينية بينما تستعد الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى اجتماع تعقده غدا الجمعة للنظر والتصويت على مشروع قرار «يعترف» بأن دولة فلسطين مؤهلة للحصول على العضوية الكاملة فى منظمة الامم المتحدة، و»يوصي» مجلس الامن ــ الذى اخفق بسبب الفيتو الامريكى فى تمرير مشروع القرار هذا عند عرضه عليه قبل اسبوعين بأن يعيد النظر فى المشروع «بشكل ايجابي».
وبدء عملية رفح العسكرية فى هذا التوقيت كفيل بأن يؤمن لمشروع القرار هذا تصويتا بأغلبية غير مسبوقة. بل قد يدفع بالإدارة الامريكية إلى الامتناع عن التصويت عليه فى مجلس الامن بسبب تحدى نتنياهو لها فى ظل حسابات انتخابية ورأى عام أمريكى جديد ضد الحرب فى غزة.
وفى النهاية.. باقتحام رفح أو بدونه.. الشعب الفلسطينى بتأييد ودعم المجتمع الدولى كله هو من سيكتب كلمة النهاية.