ربما لم يتعرض قطاع داخلى فى مصر للتغيير الموضوعى وما يثيره من جدل مجتمعى مثل قطاع التعليم.
التغيير فى هذا القطاع يكون صحياً عندما يكون دافعه ملاحقة التطور العالمي، والاستجابة لمتطلبات سوق العمل.
والجدل الذى يثيره، طبيعي، لأن التعليم قضية كل بيت وأسرة، وصحى أيضاً، لأنه يعنى ارتفاع معدل الوعى العام لدى المجتمع بأهمية التعليم لأبنائه وبناته.
وفى قلب عملية التغيير والجدل، عادة، شخص وحدث.. الشخص هو قائد القطاع، أى وزير التربية والتعليم.. والحدث هو الثانوية العامة.. نظامها ونتيجتها.
وهذا العام، اجتمع الشخص والحدث فى شهر واحد من السنة، هو أغسطس الحالي.
جاء التغيير الوزارى بوجه جديد تماماً لتولى قيادة الوزارة، وأثار مجيئه جدلاً، لأن الرأى العام لم يكن لديه أى علم عن تاريخه المهنى أو الشخصي، ولأن ما طرح من بيانات حول هذا التاريخ أثيرت حوله من البعض علامات استفهام.
وظهرت فى نفس التوقيت نتيجة الثانوية العامة.. فتعرضت ـ لأول مرة فى تاريخها ـ للتعديل بعد الإعلان الرسمى من جانب الوزارة عنها، وإبلاغها لمكتب تنسيق القبول بالجامعات، وترتب على التعديل إعادة ترتيب الأوائل.. ثم بقية الناجحين، ثم إبلاغ التنسيق بالنتيجة المعدلة.
وبدون أن يحصل المجتمع والرأى العام على فرصة لالتقاط الأنفاس بعد تغيير الوزير وتعديل النتيجة، عاجلته الوزارة بإعلان إعادة هيكلة الثانوية العامة، بل ونظام التعليم كله من الابتدائى والإعدادى أيضاً.
وأثار الإعلان اضطراباً فى كل بيت، بما تضمنته إعادة الهيكلة من إلغاء مواد دراسية، ودمج مواد أخري، واستبعاد مواد من قائمة مجموع الدرجات.. إلى آخره.
ولم يكن هناك، فى رأى البعض ـ ضرورة ملحة للتعجيل بهذا الإعلان، خاصة أنه مازال أمامنا شهر على بدء العام الدراسى الجديد، والكل مشغول بتنسيق الجامعات ونتائجه، خاصة أن الإعلان لم يصاحبه إيضاحات كافية لبنود إعادة الهيكلة.. كما لم تجد الأسرة المصرية من يجيب عن أسئلتها العديدة التى أثارها الإعلان، وأثارت قلقها حول متي، ولماذا، وكيف سيتم التطبيق حتى تستعد له؟
وأخيراً، ظهر من يجيب عن هذه الأسئلة، ويزيل بعض ما أثاره الإعلان من قلق.
الدكتور «أيمن بهاء الدين» نائب الوزير، وضع النقط فوق الحروف، على الأقل بالنسبة لأصل عملية إعادة الهيكلة، وموعد التطبيق الكامل لها، وبعض الإيضاحات حول إلغاء ودمج ونقل بعض المواد الدراسية.. إلى آخره.
ففى تصريحات خاصة للتلفزيون، أعلن الآتي:
> أن كل ما تم الإعلان عنه حتى الآن، جاء تنفيذاً لاستراتيجية الدولة للتعليم «2020/2030» التى بدأ تنفيذها الدكتور طارق شوقى الوزير الأسبق، واستمرت بعده فى عهد الدكتور رضا حجازي، ومستمرة مهما تغير الوزراء.
أى أنها سياسة دولة، وليست مشروع وزير.
> أن مناهج الثانوية العامة سيتم تغييرها بالكامل بعد ٣ سنوات، أى عندما يصل طلاب الصف الأول الإعدادى بالعام الدراسى الجديد «2024/2025» إلى الصف الأول الثانوى عام 2027/2028.
> أنه بمراجعة نظم التعليم فى أفضل عشرين دولة على مستوى العالم، ظهر أنه لا توجد دولة يدرس طلاب المرحلة الثانوية فيها 23 مادة خلال 3 سنوات كما يحدث فى مصر، ولذلك كان ضرورياً التدخل «لتخفيف الأحمال» عن الطلاب وأسرهم، والتصدى للدروس الخصوصية، وإعادة الطلبة إلى مدارسهم.
> لن يتم إلغاء أى مادة فى النظام الجديد للثانوية العامة، إنما توزيع المحتوى بطرق أكثر تركيزاً، وبهدف أن يكون هناك تعليم حقيقى بالمدارس.. لأنه لم يكن هناك تعليم بالمدارس، ولا حضور، وكانت هناك استحالة أن يتمكن المعلمون من تنفيذ المناهج الدراسية المطولة فى وقت قصير.
> وأخيراً، أن الوزارة تعمل فى الوقت الحالى على مواجهة التحديات المزمنة، وعلى رأسها إعادة الطلاب للمدارس وعجز المعلمين، وكثافة الفصول، ونسب الغياب.
هذا ملخص لأهم ما جاء فى تصريحات نائب الوزير.
وجميل أن يكون فى الوزارة شخصية قادرة على مخاطبة الرأى العام، وتقديم الإجابات والإيضاحات اللازمة عما يدور من أسئلة واستفسارات، وأن تكون هذه الشخصية فى مستوى نائب الوزير وليس مجرد متحدث رسمي.
لكن هناك ملاحظات لابد من تسجيلها:
1 – أن الدكتور طارق شوقي، الوزير الأسبق، تعرض ـ وهو ينفذ استراتيجية الدولة للتعليم ـ لحملات هجوم ورفض لقراراته، ربما أكثر مما تعرض له وزير فى تاريخ هذه الوزارة، ومن طاقة أى شخص على احتماله، حتى غادر منصبه.. فما هى الرسالة التى ينبغى أن نستخلصها من هذه الحالة: عيب فى الاستراتيجية نفسها؟! عيب فى أسلوب الوزير فى نقلها إلى أرض الواقع؟! عيب فى الواقع نفسه؟! قصور فى إقناع الرأى العام بها؟! الهجوم مدبر من مراكز قوى فى العملية التعليمية وأصحاب مصالح؟!
هذه أسئلة مهمة ينبغى التوصل إلى إجابات عنها.
2 – سبقت هذه الاستراتيجية، استراتيجية عشرية أخرى فى عهد وزير التعليم الأسبق الدكتور يسرى الجمل وهى استراتيجية 2007/2017.. ما الذى تحقق منها، على الأقل فى فترة ما قبل أحداث ٥٢ يناير 2011؟! هل نجحت فى حل أى مشكلة أو تحقيق أى من المستهدفات التى نصت عليها؟!
3- أى استراتيجية فى أى مجال، لها تكلفة، ولها عائد.. والدولة ضاعفت تقريباً مخصصات التعليم فى الموازنة العامة السنوية خلال العشر سنوات الأخيرة امتثالاً لنصوص الدستور التى اشترطت نسبة محددة من الناتج المحلى الإجمالي.. لكن تكلفة التعليم التى تتحملها الأسرة تضاعفت أيضاً، وربما بمعدل أكبر نتيجة التضخم، حتى فاقت قدرة الكثير من الأسر على الاحتمال.. بينما العائد، أو المنتج النهائى للعملية التعليمية وهو الخريج لم يصل بعد إلى المستوى الذى يرضى الطرفين.. الدولة، والأسرة، بل ولا يرضى الخريج نفسه.
٤– عجز المعلمين.. كثافة الفصول.. إعادة الطلاب للمدارس.. والدروس الخصوصية، تحديات وصفها نائب الوزير بأنها مزمنة، وقبل التغيير الوزاري، وعد الوزير السابق رضا حجازى بالتصدى لها، وقبله د.طارق شوقي.. ومعنى أنها مزمنة، وأنها مازالت تمثل نفس الحجم من التحدى هو أنها لم تعالج فى أى استراتيجية، أو فى عهد أى وزير، معالجة شاملة كاملة.. وأننا فى حاجة إلى نظرة جديدة وأفكار وحلول مستحدثة، وإلا سننتظر وزير التعليم القادم ليعيد علينا ما سبق أن سمعناه من تصريحات على ألسنة سابقيه.
هذا مجرد اجتهاد شخصي، فى قضية عامة، على قائمة قضايا الأمن القومى المصرى والنجاح فيها لابد له فى كل الأحوال من ظهير شعبى قوي.