العالم كما نراه الآن يتجه إلى مزيد من التداخل والاشتباك: لا مكان فيه لثقافة منعزلة، ولا قدرة لنظام تعليمى مغلق على تخريج إنسان منفتح.. من هنا، تبرز التربية متعددة الثقافات باعتبارها مدخلاً حيويًا لصناعة إنسان القرن الحادى والعشرين، القادر على أن يفهم ذاته وسط الآخرين، ويُصغى للآخرين دون خوف على ذاته.
فما هى التربية متعددة الثقافات؟.. وهو سؤال يطرح نفسه الان، فهى ليست مجرد دروس فى «التسامح»، ولا وحدات تعليمية عن عادات الشعوب، بل هى فلسفة تعليمية تقوم على الاعتراف العميق بشرعية التعدد البشرى والثقافى، وتربّى على الحوار لا على الانغلاق، وعلى النقد لا على التلقين، وعلى بناء الهوية فى سياق إنسانى واسع لا فى عزلة وهمية.
إنها تربية تسعى لتشكيل إنسان لا يرى فى الاختلاف تهديداً، بل يرى فيه فرصة لفهم أوسع، ونقاش أعمق، وتعايش أقوى.
ويظهر أمامنا الآن سؤال اللحظة لماذا أصبحت ضرورة الآن؟
لأن العالم يتغير ديموغرافيًا، فالهجرات الجماعية، والنزوح القسرى، والتشابك الاقتصادى.. جعلت من التعدد واقعاً لا يمكن تجاهله.
كما أن التربية متعددة الثقافات ليست مجرد «ترف فكرى»، بل هى استثمار استراتيجى، فالدول التى تبنّت هذا النهج فى أنظمتها التعليمية ـ مثل كندا، وفنلندا، وسنغافورة ـ استطاعت أن تحقق تماسكًا اجتماعيًا، وتفوّقًا معرفيًا، وتنافسية اقتصادية.
إن اعتماد هذا التوجه يحتاج إلى مراجعة جذرية لا سطحية، وإلى قرارات سياسية لا مجرد نوايا تربوية وذلك من خلال مايلى:
>> إعادة بناء المناهج بحيث لا تعكس فقط ثقافة الأغلبية، بل تسرد قصص جميع مكونات المجتمع.
>> تدريب المعلمين على أدوار جديدة كوسطاء ثقافيين، لا مجرد ناقلين لمعلومة.
>> تبنى سياسات مدرسية واضحة ضد التمييز بكل أشكاله، وخلق مناخ حوارى داخل الصفوف.
>> فتح النوافذ على الآخر من خلال آداب الشعوب، وتجاربهم، وتاريخهم المشترك لا المختلف فقط.
فإذا كانت التربية فى السابق تُبنى على الحذر، فإن التربية اليوم تحتاج إلى الشجاعة: شجاعة الاعتراف بأن العالم تغيّر، وأن أطفالنا لن يعيشوا فى نفس العالم الذى نشأنا فيه.
ولذلك، فإن التربية متعددة الثقافات ليست «مشروعًا تربويًا» فقط، بل «رؤية حضارية» للعالم. هى دفاع عن حق الإنسان فى أن يكون مختلفًا دون أن يكون مهددًا، وفى أن يتعلّم من الآخر دون أن يفقد ذاته.