يصف المؤرخ العماد الأصفهانى فى كتابه «سير آل سلجوق» واقع الحشاشين أثناء محاولة اغتيال السلطان صلاح الدين الايوبى فيقول « فإذا نُقِل إلينا صاحب الخبر وكان له غرض أخرج الصديق فى صورة العدو، والعدو فى صورة الصديق، فأسقط السلطان هذا الرسم لأجل ما وقع له من الوهم، فلم يشعر إلا بظهور القوم وقد استحكمت قواعدهم واستوثقت معاقدهم، وأخافوا السبل، وأجالوا على الأكابر الأجل، وكان الواحد منهم يهجم على كثير وهو يعلم أنه يُقتَلُ فيَقتلُ غيلةً، ولم يجد أحد من الملوك فى حفظ نفسه منهم حيلة، فصار الناس فيهم فريقين فمنهم من جاهرهم بالعداوة والمقارعة، ومنهم من عاهدهم على المسالمة والموادعة، فمن عاداهم خاف من فتكهم، ومن سالمهم نُسب إلى شِركهم فى شَرَكهم، وكان الناس منهم على خطر عظيم من الجهتين».
بالأمس الموافق 22 مايو من عام 1176م تعرض أعظم سلاطين الإسلام، البطل العظيم، المجاهد الكبير، الذى حاز قصب السبق ونال ذروة سنام الشرف، سيف الدنيا والدين، محرر بيت المقدس من الصليبيين وهازم أهل الغلو والتطرف من الشيعة ودعاة الحشاشين فى آن واحد، وقد تعرض بسبب ذلك لأبشع محاولة اغتيال عرفها تاريخ جماعات الغلو والتطرف.
كانت جماعة الحشاشين بزعيمها «حسن الصباح «518 – 1124م» أحد الأذرع العسكرية الخطيرة للاعتقاد الإسماعيلى فى القرنين الخامس والسادس الهجريين، فقد أسست دولة مترامية الأطراف تمثلت فى عدة قلاع على مساحة جغرافية متصلة حتى أُطلِق عليها بلاد الإسماعيلية، ولكى تبقى الجماعة حصينة ضد الهجمات التى تحيط بها شرقًا وغربًا أسست نظامًا دفاعيًا وهجوميًا قائمًا على استراتيجيتين: الاستراتيجية الأولى هى الجيش المنظَّم – بالمفهوم المعاصر- والذى يستطيع أن يُغير ويكون أداةً لتوسّع الدولة، والاستراتيجية الثانية هى استراتيجية الاغتيال الانتقائى عن طريق القتل المباشر بالخنجر المسموم، وكانت هذه هى الأخطر فى عصرها، حيث لم يعهد المسلمون فى ذلك العصر مثل هذا الأسلوب فى السلم أو الحرب؛ رجلٌ يتخفّى بين الناس ثم يثِب على الحاكم أو الشخصية المستهدفة يقتله غيلة دون أن يشعر به الآخرون، ودون أن يهتمّ لنفسه سيُقتَل أم سينجو من هذه الفعلة.
وقد سبب هذا الأسلوب الجديد الرعب والفزع فى كثيرٍ من الدولة والجماعات فى ذلك الوقت ، وهنا يجب الإشارة كما ذكر عديد من المؤرخين إلى أن كلمة assassination الإنجليزية التى تعنى كلمة الاغتيال فى العربية إنما تطوّرت واستمدت من كلمة الحشاشين.
الحشاشون حملة الخناجر
اتسم تنظيم الحشاشين بطابع البيعة والعمل السرى والتدريب على هذه المعتقدات، وكان مكان التدريب هو قلعة «آلموت» والذى يعد حصن فى غاية الفخامة فوق صخرة على ارتفاع ستة آلاف قدم، تحيط به جبال جرداء وبحيرات منسيّة، وممرات جبلية غير مُفضِية وليس فى مقدور أكثر الجيوش عددًا الوصول إليه إلا رِجلا إثر رجل عن طريق اما التسلل او اختراق احد اتباع حسن الصباح ، ولا تستطيع أقوى المجانيق ملامسة أسوارها العتيدة ، ويبدو حصن «ألموت» للقاطنين فيه وكأنه جزيرة وسط محيط من الغيوم، وإذا نُظر إليه من تحت فإنه مأوى الجِن والعفاريت ويدب الرعب فى قلوب الناظر إليه.
سعى «حسن الصباح» ورفاقه لنشر المذهب الإسماعيلى فى ربوع العالم الإسلامي، ولأجل ذلك أسس حسن الصباح فرق الموت التى تعتمد على المجموعات العسكرية المدربة، تدريبًا عاليا جدا من الناحية العسكرية، أما من الناحية العقدية فقد كان أتباعه من أكثر المخلصين للعقيدة الإسماعيلية وسماها بـ «الفدائيين» بعد تلقى بيعة وخبرات قتالية وإعداد نفسى وبدنى فى غاية القسوة والقوة.
كان هؤلاء الفدائيون على نمط حسن الصباح مدربين بشكل احترافى على فنون التنكر والفروسية واللسانيات والاستراتيجيات الدعوية والقتل والتخفي، وكان أكثر ما يميزهم هو استعدادهم للموت فى سبيل تحقيق هدفهم، وكان على هؤلاء الفدائيين اختراق جيش الخصم أو البلاط الحاكم بحيث يتمكنوا من الوصول لأماكن استراتيجية تمكنهم من تنفيذ المهمات الصعبة المنوطة بهم.
اغتال الحشاشون الوزير نظام الملك ـ صديق حسن الصباح القديم ـ فى أصبهان فى «10 رمضان 485 هـ = 14 أكتوبر 1092» على يدِ أبى طاهر الأرانى ، كما اغتالوا حاكم حمص جناح الدولة والفقيه الحنفى أبو جعفر النشار، ثم الخليفة العباسى المسترشد بالله أكبر رأس فى الدولة الإسلامية ثم الراشد والمستعلى إلى ان وصلوا لمحاولة اغتيال الناصر صلاح الدين الأيوبى الذى نجا منهم بأعجوبة والذى سوف نتناول هذه المحاولات بالتفصيل.
النهج العسكرى لدولة الحشاشين كان إلى حد كبير دفاعيًا، فرغم انتشار الإسماعيليين فى المدن إلا أن المعاقل الرئيسية لهم كانت متمثلة فى القلاع الحصينة والتى تبنى غالبا فوق قمم الجبال مما يجعلها ملاذا آمنا فى مواجهة اى غزو محتمل؛ حيث كان الحشاشون يحرصون على بناء مخازن كبيرة لخزن الماء والطعام داخل القلاع مما يجعلهم قادرين على مواجهة الحصار الطويل الذى يتعرضون له وقد نجحت هذه القلاع فى صد أغلب الهجمات الموجهة إليها والصمود لعشرات السنين.
الحشاشون الجدد
يثور هنا سؤال: ما علاقة جماعات الإسلام السياسى بفرقة الحشاشين ولماذا إثارة هذا الأمر فى هذا التوقيت؟ لذلك وضعت دار الإفتاء المصرية عبر تاريخها الحديث منهجًا تاريخيًا فريدًا لدراسة الفرق والجماعات والمذاهب المعاصرة، من خلال استقراء أحداث ومناهج وأفكار أهل الفرق والأهواء القديمة، مقارنة بما وصلت إليه جماعات الإسلام السياسى المعاصرة، ودومًا كان القاسم المشترك مع كل أهل النحل والأهواء فى عصور الفتن الماضية هو الخروج على أئمة المسلمين وجماعاتهم، وكانت معظم هذه الدعوات تحت شعارات الإصلاح ، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ودفع الظلم والجور، والغيرة على الدين وعلى مصالح العباد ، مما يلبس الحق بالباطل والهدى بالضلل .
لقد جاءت منهجية دراسة الفرق والحركات السرية والباطنية القديمة وجماعات الإسلام السياسى الحديثة من هذا الطريق الجديد وفق معايير علمية رصينة صكها أهل العلم والتخصص، واستمسك علماء الدار بمنهجية قراءة فرق الخوارج والقرامطة والحشاشين على ضوء دراسة الهدى النبوى القويم ونهج السلف وعلماء الصراط المستقيم.
كان الهدف من دراسة وتدريس هذه الفرق والجماعات الهدامة أن يكون المسلم على بينة من عقائدها وحتى لا ينخدع بكلامهم وأفعالهم، حتى وإن ذكرت فى كتب المتأثرين بهذه الفرق أو كتب أتباعهم المعاصرين يكون مداخلهم إلى عالم الوجود من جديد مكشوفاً وظاهراً وليتعرف الجميع كيف تم تطويع هذه الافكار إلى اغراضهم السياسية من خلال الدليل المبتور و المبتسر.
ولأن كثيرا من أفكار هذه الفرق والحركات تتجدد وتلبس ثيابًا أخرى غير التى كانت تلبسها سابقًا، أو تجدد اسماءها وعناوينها وكل يوم يظهر فى هذا العالم جديد يدعو إلى أفكار قديمة، لذلك حذرت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم من خلال « الدليل المرجعى لمواجهة التطرف.. مدخل عام فى فهم التطرف واستراتيجيات مواجهته « من هذه الفرق القديمة الجديدة، وبينت أن كثيرا من هذه الفرق لازالت تعيش بيننا، بعضها يتوسع على حساب الدين والوطن وبعضها فى الدول التى فقدت جيوشها وانظمتها وكياناتها القانونية والإدارية .
كان هدف هذا المنهج بيان الصفة أو الصفات التى لو وجدت فى شخص أو قوم او جماعة أو تنظيم لحق بالخوارج حكمًا، و اخذو حكم الخوارج شرعًا وهو ما يعرف بمناط العلة فى الشريعة الإسلامية من حيث التعامل معهم (القيد الأخير خروجاً من الجدل السفسطائى والخلاف اللفظي)، بمعني: لا يهمنا كثيرا ماذا نسميهم؟ بقدر ما يهمنا كيف نتعامل معهم؟ وهل تتالوهم الأحكام التى فى الأحاديث أم لا؟ وخاصة لو يتأكد لنا وعرفنا أن معظم الأحاديث الواردة فيهم لم تذكر تسميتهم بالخوارج ، بل هو اسم صكه علماء الفقه والعقيدة والسير والتاريخ عبر القرون الماضية ، فيصبح كل من يكفر أهل السنة وجماعة المسلمين، ويخرجون بالسلاح على مجتمعهم ، من أهل البدع تلحقهم أحكام الخوارج وأهل الغلو ، فلو زادوا بدعًا أخرى غير التكفير يصبحون خوارج و زيادة، حيث زادوا على مناط علة الخوارج مناطات أخرى زادتهم شرًا على شر، كذلك أجرينا على جماعات الإسلام السياسى المعاصرة ما جرى على أحداث وسير وفتن أقمها الخوارج وأهل الفرق فاستحقوا أن تنسحب عليهم نفس التسميات التى اطلقها من علماء المسلمين ومؤرخيهم عليهم .
محاولات اغتيال صلاح الدين الأيوبى على يد الحشاشين
المحاولة الأولى بقيادة مؤمن الخلافة
كان الوضع فى مصر إبان حكم صلاح الدين مليئا بالخلافات المذهبية، وكان هناك تعاون خفى بين الصليبيين والعبيدين الفاطميين، وتقاسيم أدوار سياسية يلعبها الجانبان، وكانت هناك موجات كثيرة من اللاجئين إلى مصر ممن يتوافدون من شرق آسيا وجنوب أفريقيا، وهنا تسلل أحد العبيد من أصول افريقية بعد أن تلقى دعوة الحشاشين وحفظ أبياتهم، وتعاهد معهم وتلقى البيعة السرية على توحيد الكلمة وعدم القعود عن نصرة الدعوة، وطلبوا منه الاستعداد لاغتيال القادة والملوك حتى يأتيه اسم الضحية وساعة الصفر، فتسلل المدعو «مؤمن الخلافة» فى وسط جيش صلاح الدين وعسكر نور الدين وحمل الخنجر وتنفس الصعداء واتجه لينفذ المهمة ، إلا أنه فى اللحظة الحاسمة استعجل التنفيذ فشك فيه أحد جنود صلاح الدين وقبضوا عليه ودارت معركة بين مجموعة الحشاشين وجنود صلاح الدين، ففشلت العملية! .
مبعوث الشيخ سنان
كانت المحاولة الثانية بأوامر من خليفة حسن اصباح راشد الدين سنان او المعروف بشيخ الجبل وقد وصفه المؤرخ الكبير الذهبى بانه «كبير الإسماعلية وطاغوتهم « فقد كان صاحب رؤية وثقافة ودهاء ومكر شديد ، وكان صلاح الدين بعد تنفيذ المحاولة الأولى قد أخذ حذره من الحشاشين ومن سنان على وجه الدقة فقد أبلغت أجهزة الاستخبارات العسكرية قدرات ونية سنان المستقبلية فى النفاذ إليه فأرسل له رسالة إلى قلعة «آلموت» المنيعة، وقال له: احذر دار مصر فان لها رجالاً وجيشاً وعدة وعتاد فقال له سنان : سأريك رجال مثل الذين سوف يلقونك قريبا، وأشار إلى رجاله ان يلقوا بأنفسهم من الحصن فسمعوا وأطاعوا وألقوا نفوسهم فهلكوا! ، وهى رسالة كانت لصلاح الدين وإشارة لنية الحشاشين لتخلص من صلاح الدين أثناء حصار حلب وكان صلاح الدين يريد ضم حلب لدولته التى كان يتولاها الصالح ابن نور الدين ويرفض تسليمها له ، وكان الصالح صغيرا فتعاطف معه العديد من الأمراء آنذاك.
استغل الحشاشون هذا الخلاف وتسلل أحدهم إلى خيمة صلاح الدين وهو ناصح الدين خمارتكين أمير قيس وكان له معهم باع وطول أمد فى دعوتهم وهنا عرفه جند صلاح وحدثت مقتلة كبيرة نجا منها صلاح الدين من محاولة محققة للاغتيال.
انتحاريو جوشن
لم تكن المحاولات السابقة جميعها ناجحة كما ذكر ابن الاثير فى كتابه «الكامل» فقد فكر هؤلاء مرة أخرى فى الانتقام من صلاح الدين فهو العدو اللدود لهم ولدعوتهم ودولتهم وتنظيمهم ، وقد علم ابن سنان ان الملك الصالح كان يجتمع بجنده اثناء حصار حلب كى يكيدوا لصلاح الدين فارسل سنان جماعة من اهم رجالة واخلصهم ممن كانوا يتدربون بشكل يومى لاغتيال السلطان فحضروا إلى جبل «جوشن « الذى يعسكر فيه صلاح الدين واختلطوا بعسكره فعرفهم جنود صلاح الدين واشتبكت معهم فرقته وأنقذوا السلطان من بين أيديهم بعد أن حاول أحد الحشاشين اقتحام خيمته واغتياله فتم قتله وتم القبض على الباقين وأعدموا جميعا .
يذكر المؤرخون عدة محاولات من سنان أمير وقائد الحشاشين لاغتيال صلاح الدين سواء فى مدينة حلب أو أثناء حصارها وتخفى الحشاشون حملة الخناجر فى صورة جند صلاح الدين ونجى بفضل الله وقد فدته الخوذة التى كان يرتديها بعد أن أصيب فى رأسه بجروح طفيفة، وهذا الحادثة هى المشهورة عند المؤرخين فقد نقلها العماد الأصفهانى ونقلتها مصادر عديدة.
التاريخ فائدة وإفادة
كان الخلاف المذهبى والتطلع السياسى بين صلاح الدين والحشاشين أحد أهم الأسباب الرئيسية فى هذا النوع من الاشتباك وهو درس التاريخ الذى يجب ان نتعلمه؛ فصلاح الدين قضى على الدولة الفاطمية والتى كانت بمثابة القبلة التى يتوجه إليها الحشاشون وهذا ما يفسر رفض إيران وقواعد الشيعة فى كثير من دول العالم عرض مسلسل الحشاشين الذى أذيع فى رمضان الماضى وكان من إنتاج الشركة المتحدة وحصل على نسبة مشاهدة عالية لأنه فضح هذا الفكر المتطرف وعلاقته بجماعة الإخوان الإرهابيين التى تسير على نفس المنهج.
كما أن صلاح الدين الأيوبى وضع أساساً لمشروعه السنى وكان واضحاً أشد الوضوح فى إصراره على القضاء على الدولة الفاطمية، فقد كان حريصا على المذاهب السنية الأربعة وعلى التواصل مع العلماء والاستنارة بآرائهم، كان يريد دولة مصرية قوية فى المنطقة العربية والإسلامية.
التاريخ حلقات متصلة، ولا شك أن الصراعات التى تشهدها المنطقة العربية والعالم بأسره وليدة جذور ممتدة من عصور قديمة، والدرس الهام فى مراجعة الفكر الإسلامى هو ألا نعطى أحدًا نوعا من القداسة التى تقودنا لاستجلاب عقولنا وتوجيه أفكارنا، فالرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال!.
يعد الحشاشون حلقة هامة فى التاريخ الدموى للتنظيمات الإرهابية، وقد أطلقوا فكرهم الإسماعيلى المتطرف وانشقوا عن جماعتهم كما هى عادة أهل الفرق والنحل، وصنعوا عقودا من الدمار النزارى وحاولوا بناء دولة الحشاشين ونشر عقيدتها والتصدى لدول مثل السلاجقة والزنكيين والايوبيين.. وربما كانت محاولة اغتيالهم لصلاح الدين الأيوبى مرة بعد مرة هى أكبر دليل أن تلك الجماعات دائما فاقدة للبوصلة بين العدو والصديق وما يهمها هو تحقيق مآربها فى السلطة!.
لقد توفى صلاح الدين الأيوبى ٥٨٩هـ وكان سلطانا على الشام ومصر والحجاز واليمن، ولم يوجد فى خزائنه شيء سوى دينار و٤٧ درهماً لم تكف لتكفينه ودفنه، وعاشت الفرقة بعده سنوات وبقيت سيرة صلاح الدين صلاح مرتبطة بمصر العروبة والإسلام وانحصرت سيرة هؤلاء القتلة فى العنف والإرهاب داخل كتب اهل التطرف والغلو وفى نفوس بعض من تأثر بهم حتى الان.