التاريخ ليس فقط مجرد سرد لوقائع.. أو أحداث.. أو نستخلص منه العبرة والعظة.. أو الحكمة.. إنما التاريخ حياة.. والتعمق فى أحداث التاريخ متعة.. فى كل مرة أذهب فيها الى باريس.. أقف فى ميدان الكونكورد.. أكبر ميادين العاصمة الفرنسية.. حيث المسلة المصرية الشامخة التى تزين قلب باريس.. خلف متحف اللوفر.. أعظم واكبر متاحف العالم.. وبالمناسبة فإن دخل متحف اللوفر 13 مليار دولار فى السنة!!.. أشاهد نموذجاً لأهرامات مصر.. من الزجاج.. بمدخل اللوفر.. قلت فى نفسى المسلة والاهرامات من رموز الحضارة المصرية.. كيف تضعهما فرنسا امام رموز حضارتها.. الإجابة : ان الحضارة لا تنتمى فقط لدولة أو شعب.. إنما هى ملك الانسانية.. فلا مانع من ان تتواجد رموز حضارة مصر مع رموز حضارة فرنسا.. فى داخل متحف اللوفر.. امضيت يوما كاملا داخل قسم الآثار المصرية.. اكبر أقسام اللوفر.. سألت احدى مرشدات المتحف: كيف نقلت هذه الآثار الى فرنسا.. أجابت : عن طريق الهدايا والشراء.. وأضافت : الا تعلم أن المسلة المصرية فى الكونكورد.. هدية من محمد على باشا حاكم مصر.. الى شارل العاشر حاكم فرنسا فى عام 1830.. وقالت: ان وزن هذه المسلة 230 طنا.. والسؤال كيف يمكن نقل مسلة من الجرانيت تزن 230 طنا من الاقصر الى فرنسا.. وهنا لابد أن نتذكر ان الرومان نجحوا فى القرن الرابع فى نقل مسلات مماثلة الى روما عبر البحر المتوسط.. وقرر ملك فرنسا تشييد سفينة بمواصفات خاصة ذات قاع مستو لنقل المسلة من النيل الى نهر السين بباريس.. بعد انتهاء جولتى فى اللوفر.. سيطرت على ذهنى حكاية المسلة وطريقة نقلها.. حتى عثرت على كتاب مصر ولع فرنسى للكاتب الفرنسى روبير سوليه.. ترجمة: لطيف فرج.. وجدت كل كلمة قالتها المرشدة السياحية باللوفر.. موثقة فى هذا الكتاب.. يقول روبير سوليه : ان فرنيناك سان _ مور Verninac Saint _ Maur قبطان السفينة بالاقصر فى رسالة بعث بها الى شامبليون (مكتشف اللغة المصرية القديمة) يقول فيها: ابتهج معنا يا سيدى المواطن العظيم.. اننا سنحضر إلى فرنسا ما صنعته حضارة قديمة من اجل صيانة التاريخ فى ظل انعدام مطبعة.. وتحركت السفينة يوم ٢٢ اغسطس 1832 بعد عام كامل عاش خلاله طاقم السفينة و150 مهندساً وعاملاً ونجاراً ونحاتاً وميكانيكياً.. جاءوا مع السفينة من فرنسا للعمل فى نحت المسلة من الأرض ونقلها بمساعدة حوالى 300 عامل مصرى من ابناء الاقصر.. وتصل المسلة باريس يوم 23 ديسمبر بعد 32 شهرا متواصلة من العمل ويعترض الشاعر الفرنسى المعروف بيتروس بوريل Petrus Borel (1809- 1859) قائلا: ليس لأى شئ قيمة الا حينما يوضع فى موطنه الخاص وسط أرضه ومسقط رأسه وتحت ظل سمائه.
يوجد ارتباط متبادل بين الصروح والبلاد التى أقامتها.. وبقى ان اقول: ان عظمة هذه المسلة.. انها منحوته من حجر واحد.. طولها ٢٢ مترا.. تزن 230 طنا !! وفى يوم ٢٢ أكتوبر 1836 يعزف مائة عازف.. اسرار ايزيس الخفية لموزار.. وسط تصفيق 20 ألف فرنسي.. لتنتصب المسلة المصرية بشموخ فى قلب باريس.. شاهدة على عظمة مصر.. فعلا التاريخ عشق