أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء، ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
كما أن البطولة تجرى فى دماء المصريين فى سيناء فقد ولدوا أبطالاً، فلم تفرق سيناء فى عشقها بين شيخ وطفل، حتى أن الشهادة فى سيناء تنادى على أصحابها، فلم يتجاوز الفتى الثامنة عشرة من عمره إلا واستأذن والده فى سداد فاتورة الوطنية، فقد راح طواعية ليتجند بالحرس الوطنى فى 1966، ليتشارك مع شباب سيناء فى الدفاع عنها، إلا أن الشاب قُدر له أن يشهد هزيمة 1967 ويتجرع مرارة الانكسار، لكنه عاد سريعًا إلى رشده الذى هداه لاستكمال دوره فى الدفاع عن سيناء، ورغم ما ألم به من حسرة ونكد جراء مشاهدته للعدو الصهيونى يرفل على تراب سيناء، فإن تلك الصورة القاتمة لم تثنيه عن تحقيق غايته فى نصرة وطنه، واستعادة أرضه، وصاحب الشاب العديد من أبناء سيناء وشبابها ممن كانوا فى مثل عمره أو يزيدون، وكان همهم الأول هو الحفاظ على جنود جيشه وتأمين عودتهم سالمين إلى غرب القناة.
بطلنا هو نصر عودة نصر منصور قبيل استشهاده بعد أيام من يونيه 1967 لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة، فقد ولد فى قرية رابعة بمدينة بئر العبد، وتربى وسط أبناء قبيلة البياضية، تعلم منهم كما أبناء سيناء حب هذه الأرض والدفاع عنها، ولكن كما سجل الشاب البطل نجاحات متتالية فى نقل أعداد من جنود الجيش المصرى إلى غرب القناة غير عابئ بتهديدات العدو الصهيونى فى عدم مساعدة أفراد الجيش المصرى وإلا يتعرض مَن يقدم المساعدة للعقاب الشديد الذى قد يطول أسرته، أيضًا كانت هناك إخفاقات لم يكن بيده منعها فطالته نيران طائرات الهليوكوبتر المعادية أثناء تتبعها لأسراب الجنود المصريين، وكانت تقتل منهم البعض وهو يقوم بدفن جثامين هؤلاء الجنود الذين استشهدوا متأثرين بإصاباتهم فى تراب سيناء، وكانوا جنودًا من قرى الصعيد والدلتا ومن الوادي، كان منهم من يقول له فى ليالى السمر: ما أجمل هذه الأرض وما أقدسه من تراب! وكان بطلنا يغار على سينائه وكأنها ملكه وحده، لم يكن يعلم بعد أن سيناء يمتلكها هؤلاء الذين يسطرون أسماءهم بدمائهم فى سبيلها، ومن هم يوارى ثرى سيناء أبدانهم كحضن أم حنون لا تريد أن يفارقها وليدها.
وبرع الشاب البطل فى إخفاء تحركاته مع أعداد الجنود أثناء انتقالهم من سيناء إلى غرب القناة عبر ملاحات بورسعيد، تعلم الشاب من هؤلاء أن كل شباب مصر يعشقون سيناء مثله تمامًا، وربما ما أدركه من عشق الشبان لسيناء زاده إصرارًا على مساعدتهم فى العبور إلى الضفة الغربية من القناة، وتوالت رحلات الشاب صغير السن مع إخوانه من الجنود ورفقاء درب المقاومة ضد العدوان الصهيوني.
ومنذ يونيه 1967 كان الشاب البطل صغير السن له دور كبير فى تحرير سيناء، فكان الشهيد نصر عودة الهرش، أول شهيد فى منظمة سيناء الدولية، والذى صحبه على درب الشهادة الشهيد سليمان علي، اللذان استشهدا عام 67، وكانا يحملان خرائط وصورًا لأحد المواقع الإسرائيلية بسيناء، واستهدفتهم دورية إسرائيلية قامت بإطلاق النيران عليهم، مما أدى إلى استشهادهم فى الحال، ولم يكتف العدو الإسرائيلى بمقتلهما، وإنما قام بالاستيلاء على جثمانيهما وإخفائهما.
ويحكى الشقيق الأصغر سيد عودة نصر رئيس المجلس المحلى لقرية رابعة «الثلاثين من يونيه حاليًا»: حينما كان عمر أخى البطل 19 عامًا كلفته منظمة مجاهدى سيناء بمهمة فدائية لجمع المعلومات وتصوير مواقع للعدو الإسرائيلي، وكان معه البطل سليمان على ناصر من قرية رابعة، وعبر ملاحات بور فؤاد كان خط سيرهما حيث سيتم تسليم الوثائق والصور، لكن حدث أن اكتشفته مصادفة طائرة هليوكوبتر إسرائيلية، وأرسلت عبر مكبر الصوت إليهما نداءات بالاستسلام، وخشيا البطلان من أن يعرف العدو نواياهما أو يعذبهما ويأخذ الوثائق التى كانت بحوزتهما، فحاولا الفرار والاختباء لكن دون جدوي، وأطلق عليهما العدو الجوى قذائف عند شاطئ رمانة، وكان ذلك أواخر يونيه 1967، ولم يتم العثورعلى جثتيهما، والمرجح أنهما قد ألقيا بجسديهما فى ملاحات بورسعيد وهما يلفظان الأنفاس الأخيرة ومعهما مهمتهما حتى لا يفوز العدو بها وحتى لا يتمكن من أسرهما، وربما قد يعرف أعمال المجاهدين من أبطال سيناء، فآثر البطل ورفيقه أن يذوبا فى قاع البحيرات عن أن يحييا فى معتقلات العدو، كما أن العدو الصهيونى لم يعلن عن اكتشافه لجسديهما، وظل أخو البطل ورفاقه يترقبون الإعلان من جانب العدو عن اكتشافه لهما، لكن يبدو أن ما أراده الشاب البطل ورفيقه قد تحقق لهما وحفظت ملاحات بورسعيد سرهما للأبد.
لذا يعد الشهيد نصر نموذجًا لشباب سيناء المجاهدين الذين سطروا بدمائهم الذكية أروع قصص البطولة، وقد منحه الرئيس أنور السادات نوط الامتياز من الطبقة الأولي، وأطلق اسمه على أحد شوارع القرية كأول وأصغر شهيد من أبناء سيناء فى مقاومتهم للعدو الإسرائيلي.