وسط الضجيج الذى أحدثته الثورة الفرنسية عام 1789 طرحت مجموعة من الأفكار الجديدة التى ترتبط بصلاحيات الملك لويس السادس عشر، فهناك من كانوا ينادون بتقليص تلك الصلاحيات وهناك من كانوا يقفون بمنتهى القوة وراء بقاء الوضع كما هو عليه حفاظا على التقاليد الراسخة داخل المجتمع الفرنسي، وعندما احتدم الصراع بين الفريقين تجمع الفريق الأول الموالى للملك ولسلطاته الكاملة وجلسوا ناحية «اليمين» بينما وقف المناهضون للملك وسلطاته ناحية «اليسار»، وقد أسهبت الصحافة الفرنسية فى تغطياتها ومعالجتها مستخدمة مصطلح اليمين للتعبير عن التقليديين والكلاسيكيين والمحافظين الذين ينشدون الحفاظ على الدولة والملك، بينما كان مصطلح «اليسار» تعبيرا عن التقدميين الثوريين من دعاة التغيير الذين يهدفون إلى سيادة الشعب ورغبات الجماهير، من هذه الواقعة خرجت مصطلحات «اليمين واليسار» ودلالاتها السياسية قبل أن تتحول فيما بعد إلى أيدولوجيات حاكمة وراسخة ولها أهدافها ومرجعياتها، يقول المفكر الفرنسى أندرية كونت سبونفيل» أن تكون يمينياً يعنى أنك تريد عظمة فرنسا أن تكون يسارياً يعنى أنك تريد سعادة الفرنسيين»، فاليسار يميل أحياناً، بطريقة خطيرة، نحو الخيال واليوتوبيا أما اليمين فلا يرى إلا الواقعية مهما كانت قاسية ومعقدة، إذن نحن أمام نموذجين أحدهما مثالى خيالى ويمثله اليسار وعلى العكس تماما يأتى التيار الآخر وهو الباحث عن الفعالية واحترام الواقع والتفكير بواقعية، ورغم وضوح هذه الأفكار والانحيازات السياسية لكلا المعسكرين يأتى الاقتصاد ليضفى مزيدا من التعقيدات فى فهم توجه كل فريق، فاليمين دوما وأبدا يؤمن بالحرية الاقتصادية الكاملة وسيادة الرأسمالية – حتى لو كانت متوحشة – وخفض الضرائب وحرية العمل والتميز والتفرد، اما اليسار فيرى ان التخطيط المركزى والاعتماد على الحكومات فى إدارة وتوجيه الاقتصاد هو الأساس الذى يمكن من خلاله تحقيق المساواة بين الجميع، مع ضرورة فرض ضرائب على الأغنياء لمصلحة الفقراء، هنا نجد التباين بين الرؤى السياسية والاقتصادية بين معسكرى اليمين واليسار، لقد عاش العالم مراحل شديدة الصعوبة والتوتر بين ما يسمى المعسكر الرأسمالى والمعسكر الاشتراكي، والذى سمى أيضا بالمعسكر الشرقى والغربي، والآن نقف على أعتاب مرحلة جديدة من شروق مذهل لليمين واليمين المتطرف فى أنحاء العالم، هذا الشروق يقابله غروب لليسار وحوارييه بشكل غير متوقع، اليوم نرى الولايات المتحدة أكبر دولة فى العالم يقودها فريق يمينى متطرف يؤمن بالحفاظ على الدولة والقومية والدين والقيم الإنسانية، وفى سبيل تحقيق ذلك تستخدم ما لديها من أدوات قد تكون مؤلمة لكثير من الدول التى تقع فى نطاق التبشير اليمينى الذى تقوده الولايات المتحدة، اليوم نرى ترامب وهو يقول أمريكا أولاً والمجد لأمريكا ويقرر طرد اللاجئين والمهاجرين من بلاده وفى نفس الوقت يقوم بتطهير مؤسسات الدولة من الموظفين الذين يصفهم بقليلى الكفاءة ويربط ذلك بأنهم غير أمريكيين، ينظر ترامب على ان شعارات المساواة والعدالة تمثل ظلما لأصحاب الكفاءة واستنزاف مواردهم وثرواتهم لحساب المهمشين وضعاف الموهبة، هذه الأفكار وغيرها حملها نائب الرئيس الأمريكى دى فانس إلى مؤتمر ميونخ للأمن وبدأ وبمنتهى القسوة واجه شركاؤه الأوروبيين بالحقيقة كاملة، هذه الحقبة لليمين مهما كانت درجة يمينيته ولا مكان لليسار فى عالمنا الجديد، اليمين الذى يؤمن بالرأسمالية المتوحشة ويؤمن بأن تبق البلاد على سيرتها الأولى دون تشويه من اللاجئين والمهاجرين الذين يغيرون الديموجرافيا البشرية ويحطمون الثوابت والقيم الغربية، لذلك عليهم الرحيل فورا، اليمين الذى يؤمن بأن الأسرة رجل وامرأة فقط وليس هناك مكان لجنس ثالث، فلا قبول للمثلية والتحول الجنسي، اليمين يرى ان الدين يجب ان يكون موجوداً وحاضراً وحاكماً لتصرفات وسلوك الناس، اليمين يرى ان أصحاب الأديان الأخرى أعداء مهما بدت علامات التعاون والتفاهم، اليوم نقف على ناصية اليمين الصاعد فى دول أوروبا، خاصة فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وهولندا وبريطانيا وألمانيا، هذا اليمين الذى يدعمه صعود اليمين الأمريكى بوصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض واندلاع تلك الثورة اليمينية غير المسبوقة منذ ظهور ذلك المصطلح إبان أحداث الثورة الفرنسية، لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة، وماذا عن منطقتنا العربية والشرق الأوسط؟ هل يزحف اليمين المتطرف على جثة اليسار الذى ترنح ولم يعد له وجود فى أرض الواقع؟ أم ان اليسار قادر على إنتاج أفكار جديدة واقعية بقدر قليل من الرومانسية التى لا يقوى على العيش خارج دائرتها الأثيرة والمريحة؟ والأهم ما هى الآثار المترتبة على صعود اليمين المتطرف فى أوروبا وأمريكا على واقعنا السياسى والاقتصادى؟