طغى التصعيد المتزايد على الجبهة اللبنانية بين الجيش الإسرائيلى المعتدى وحزب الله اللبناني، واستمرار العدوان الإسرائيلى على غزة والضفة الغربية فى الأراضى الفلسطينية، على تطورات انتخابات الرئاسة الأمريكية وحملات المرشحين فيها رغم اقتراب موعدها فى الأسبوع الأول من نوفمبر القادم.
قلت فى مقال سابق، إن رئيس الوزراء الإسرائيلى سيزداد جنوناً كلما اقتربت ذكرى يوم السابع من أكتوبر.. اليوم المشئوم فى تاريخه الشخصى والسياسى وفى تاريخ إسرائيل، وهو يوم عملية «طوفان الأقصي» دون أن يحقق نصراً ما يستطيع أن يبرر به للإسرائيليين استمرار حربه، واستمرار معاناتهم من جرائها.
لم يعد بيننا وبين السابع من أكتوبر سوى أيام، ولم يحقق نتنياهو، ويبدو أنه لن يحقق، أى نصر.
قبل أسبوعين، أعلن نتنياهو ووزير دفاعه «جالانت» أن مهمة الجيش الإسرائيلى فى غزة انتهت، وسينتقل بقواته إلى الشمال حيث لبنان وحزب الله.
تنتهى مهمة الجيوش بتحقيق الأهداف المعلنة من عدوانها أو حربها.. فهل حرر نتنياهو رهائن إسرائيل لدى حماس فى غزة؟! هل قضى على الحركة ونجح فى تفكيكها؟! هل حقق ضماناً لإسرائيل بعدم تكرار عملية طوفان الأقصى إلى الأبد؟! هل نجح فى تغيير الشرق الأوسط كما وعد منذ اليوم الأول لعدوانه؟!
لو كان نتنياهو نجح فى تحقيق أى هدف من هذه الأهداف، ما كان فى حاجة للانتقال بالعدوان والحرب إلى جبهة أخري، ليتحول بإسرائيل من «عالق» فى غزة فقط، إلى عالق فى لبنان أيضاً.
فقد أعلن إضافة هدف جديد من حربه على لبنان وحزب الله، وهو إعادة المستوطنين الإسرائيليين إلى مستوطناتهم ومنازلهم التى هجروها إلى الداخل هرباً من صواريخ حزب الله التى أفقدتهم الأمن والأمان.
وأعاد التأكيد على تصميمه تغيير الشرق الأوسط.
ولأنه استشعر خطورة التصعيد على الجبهة اللبنانية، فقد اضطر بعد أيام فقط من التصعيد إلى الكشف لأول مرة عن أخطر سلاح سرى يملكه حزب الله واللبنانيون، واللجوء إلى استخدامه بالمخالفة لكل قواعد القانون الدولى الخاصة بحماية المدنيين، وهو تفجير أجهزة الهواتف المحمولة التى فى أيدى مقاتلى الحزب وهم وسط الأماكن والمجتمعات المدنية، وفرض النزوح على اللبنانيين سكان قرى الجنوب والإغارة على العاصمة اللبنانية بيروت ومناطق شرق لبنان لترويع اللبنانيين ودفعهم إلى الضغط على حزب الله لوقف الصراع.
حرب نتنياهو فى غزة ليست الأولى من جانب إسرائيل ضد المقاومة فى القطاع.. وحرب نتنياهو ضد لبنان ليست الأولى كذلك.. فلا حروب غزة نجحت فى إخضاعها وتسليمها بالأمر الواقع.. ولا الحروب ضد لبنان دفعت حزب الله إلى إلقاء سلاحه.
اللجوء فى كل مرة إلى نفس الأساليب، وهى استخدام القوة المسلحة لفرض استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية ولأجزاء من الأراضى اللبنانية لم تؤد إلا إلى نفس النتائج، وهى استمرار الشعبين الفلسطينى واللبنانى فى تحدى الاحتلال، وزيادة التصميم على تحرير أرضهما منه.
وهو ما يحدث الآن فى غزة والضفة ولبنان.
ولو فتح نتنياهو عشر جبهات جديدة على امتداد الأرض العربية، فلن يحصد سوى نفس النتيجة.
وأظن أن لإسرائيل تجربة مريرة مع أكبر دولة عربية وهى مصر، حين ظنت إسرائيل بعد عوانها علينا فى الخامس من يونيو 7691 واحتلالها سيناء بالكامل، أن هذه نهاية مصر والجيش المصري، فإذا بها تواجه بعد ست سنوات من الاحتلال ومن حرب الاستنزاف، مصر أخرى فى السادس من أكتوبر 3791 وجيشاً جديداً، ومقاتلين فرضوا ـ بإرادتهم الحديدية وأسلحتهم التقليدية ـ الهزيمة على الجيش الذى قال عن نفسه إنه «لا يقهر» وأصابوا بالشلل ذراعه الطولي، وهى سلاحه الجوي، الذى كان يدعى لنفسه الانفراد بالسيطرة على سماوات الشرق الأوسط كله.
إن الشرق الأوسط الذى يتوعده نتنياهو بالتغيير، ليس إقطاعية إسرائيلية.. قرار الشرق الأوسط ومصيره، وثباته أو تغييره، فى أيدى شعوبه وليس فى أيد أخرى لا داخل المنطقة ولا خارجها.
وللأسف، فإن كل ما قام ويقوم به نتنياهو، قد أعاد الفجوة بين شعوب الشرق الأوسط وإسرائيل إلى ما كانت عليه، حتى قبل اتفاقيتى السلام مع مصر والأردن، وحتى بعد تطبيع دول أخرى علاقاتها مع إسرائيل، والتى حققت لإسرائيل قدراً من الأمن والاستقرار النسبيين.
هذا هو الهدف الذى لم تضعه إسرائيل ضمن أهداف عدوانها وحروبها، لكنه نجح بامتياز فى تحقيقه.
وهذا هو التغيير المذهل والانتصار المبين الذى بوسع نتنياهو أن يقدمه للإسرائيليين ويسجله فى ختام سيرته الذاتية، وهو انتصار لم يكن أعدى أعداء إسرائيل يحلم بأكثر منه.
لقد أصبحت إسرائيل أقل أمناً، ليس اليوم أو غداً فقط، بل إلى مدى لا يمكن تحديده حتى تعيد كل شبر من الأرض الفلسطينية والعربية وتقبل حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على أرضهم وعاصمتها القدس الشرقية وحتى تمحوا الصورة الذهنية ذات «الطابع النازي» التى نجح نتنياهو فى تصديرها للمجتمع الدولى والرأى العام العالمى عن إسرائيل وحرب الإبادة فى غزة.
وحتى تتمكن أجهزة العدالة الدولية من ملاحقة ومحاكمة نتنياهو وشركائه من داخل وخارج إسرائيل على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبوها أو ساعدوا إسرائيل على ارتكابها فى غزة والضفة ولبنان وسوريا وغيرها.
بدون ذلك، لن تنعم إسرائيل بالأمن.. لن تنال الاستقرار كدولة إلا إذا قامت واستقرت الدولة الفلسطينية.
وإذا كانت ثلاثة أرباع قرن مضت على قيام إسرائيل لم تكف لإقناع قادتها بهذه الحقيقة، فعليها أن تنتظر ثلاثة أرباع قرن أخرى من انعدام الاستقرار والأمن لعلها تقتنع.