كانت مقامرة كبيرة للرئيس الفرنسى ماكرون.. حين دعا لإجراء انتخابات مبكرة، لكنه كان امام خيار صعب بعد الفوز الساحق لأقصى اليمين فى الانتخابات الأوروبية فى يونيو الماضى ويرى الرئيس الفرنسى أنه ألقى قنبلة على اقدامهم بتلك الانتخابات المبكرة.
ولكنها كانت مقامرة متفجرة وكانت النتائج النهائية مفاجئة للبلاد: حيث جاء تحالف اليسار الفرنسى فى المرتبة الأولى بـ182 مقعدا، وتأخر اليمين المتطرف للمركز الثالث بـ 143 مقعدًا بعد كتلة الرئيس التى حلت فى المركز الثانى 168 مقعدًا، وهو انعكاس صادم لنتائج الجولة الأولي، الأحد الماضي.. ورغم أن حزب التجمع الوطنى لم يحقق النتائج المتوقعة، إلا أن ذلك لا يزال يشكل انتصارا لزعيمة أقصى اليمين الفرنسي، مارين لوبان، حيث حصل حزبها على المزيد من المقاعد مع كل انتخابات تجرى فى عام 2017، و89 فى عام 2022، و143 فى عام 2024.
الواضح ان رؤية ماكرون وربما مقامرته منعت أقصى اليمين من الوصول إلى السلطة، لكنها قد تغرق البلاد فى الفوضي، ومع عدم وجود انتخابات برلمانية مقررة لعام آخر، ستمر فرنسا بوقت من عدم اليقين، لاسيما فى ظل تحول أنظار العالم بقوة إلى باريس، حيث تستعد لاستضافة الألعاب الأولمبية فى غضون ثلاثة أسابيع.. والأمر المؤكد هو أن فرنسا على وشك الدخول فى مرحلة طويلة من عدم الاستقرار، حيث تحاول ثلاث كتل متعارضة ذات أفكار وأجندات متنافسة تشكيل ائتلاف، أو تجد نفسها عالقة فى حالة من الشلل.
مع وجود مثل هذا البرلمان المنقسم، لا يوجد أمل فى إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة على المستوى الوطني، وأفضل ما يمكن لليساريين أن يأملوا فيه هو تشكيل تحالفات مؤقتة للتصويت على تشريعات فردية.
ويبدو أن الكتلة الأساسية لماكرون صمدت بشكل جيد للغاية، حيث فازت بـ163 مقعدا. رغم خسارتها نحو 100 مقعد فى البرلمان، إلا أنها نتيجة أفضل بكثير مما كانت تشير إليه استطلاعات الرأي، على الرغم من أننا سنشهد تحولا فى السلطة من الإليزيه إلى الجمعية الوطنية.
فى المنطقة العربية، تماهت النخبة وبعض العوام مع المشهد على صيغة الشأن الداخلي، لقد اعتبروا أحداث الساحة الفرنسية تخصهم بشكلٍ مباشر، وتعاملوا معها بمعارفهم وخبراتهم السياسية المحرفة، المرتبطة للاسف مع حال التشوه الأيديولوجى ومقارباتنا لليمين واليسار.. ولكنه للاسف ليس موصولاً بحبل سرى مع البعث والشيوعية العربية والاشتراكيين الثوريين، كما قد يتصور بعض الرومانسيين الذين ما غادروا خيمة الرفيق ستالين حتى اليوم.
ما يقال فى باريس يصدق على لندن أيضًا، لقد أساء المحافظون طوال أربع عشرة سنة فى السُّلطة، وأعوامهم الثمانية الأخيرة احتشدت بالفوضى والارتباك، داخليًّا ومع المنطقة والعالم، وآخرها موقفهم المشين من العدوان الإسرائيلى الغاشم فى غزة، ولكن أيضا هلّل الطوباويون المتفائلون لاكتساح حزب العمال وهيمنته على البرلمان قبل أيام، وبعيدًا من التفاوت الضئيل فى مسائل الضرائب والمناخ والرعاية الصحية؛ فإن القواعد العامة ما دون ذلك تكاد تتطابق. السير كير ستارمر ليس معاديًا لممارسات الدولة الصهيونية وانفلاتها، ولا حتى ناقدًا لها؛ بل صرح كثيرًا بما يفيد معاداة المُقاومة وحق الاحتلال فى الدفاع عن نفسه، ولزوجته عائلة تعيش فى فلسطين المحتلة، لقد وقعت أشد مآسينا الحديثة فى عهد اليسار، وقتما سُحب تونى بلير كحملٍ وديع فى طرف سلسلة يقبضها جورج بوش الابن، وأُطيحَ بالعراق وألقى فى عُهدة إيران، ولم يكن المحافظون أكملوا شهورًا فى ولايتهم الجديدة.
أخشى أنها لعبة كراسٍ موسيقية، وأننا مسروقون بأثر السكر وأوهامه الزائفة، والواقع الذى يراه الجميع وقد نغفل عنه ان اوروبا ذاهبة إلى اليمين حتما بحكم طبائع الامور وبحكم ان اوراق اللعبة لابد انها تقودنا لذلك – كما قالت لوبان – ان فوز اليمين قادم هو فقط مؤجل، حصاد الانتخابات أن الصعود معلق على إيجاد البديل، والواقع أن البدائل تتآكل وتنتهى فاعليّة حلولها.
وبنظرة معمقة فإنه بالنسبة لنا فى الشرق الأوسط يجب الا ننساق خلف معركة لن تفيدنا، وإذا لم نكن قادرين على صنع واقع عربى جديد ومختلف ونغير إيقاع الاحداث، فعلى الأقل يجب ألا نرقص فى زفاف لا يخصنا، ولا أن نفرح لفائز يرفع علينا السلاح كما رفعه الخاسر من قبل.