فى ظل التوترات الجيوسياسية، التى يمر بها العالم وتحيط بنا من كل جانب، ولأن مصر أصبحت صاحبة قرار عالمى وموقع إستراتيجى فى جزء من الصراعات تبرز أهمية تحقيق الاكتفاء الذاتى وتطوير البنى التحتية، وهذا ما يتم استكمال العمل عليه حالياً وفى السنوات القادمة، حيث إن الاستثمار والاقتصاد القومى والتنمية المستدامة من خلال التنمية الصناعية والزراعية، هى ركائز أساسية لتحقيق النمو وتساعد فى الاستقرار الاقتصادي، وهذا جزء لا يتجزء من مواجهة مخاطر الوضع الحالى عالميا.
وفى هذا الاتجاه، تبذل وزارة الزراعة، وغيرها من الجهات المعنية وبتوجيهات من الرئيس عبد الفتاح السيسي، جهودًا مكثفة لتعزيز الأمن الغذائى وتحقيق الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الإستراتيجية، شملت هذه الجهود استصلاح الأراضي، تحسين إنتاجية المحاصيل، وتطوير البنية التحتية الزراعية.
«الجمهورية الأسبوعي»، فى السطور التالية تناقش مع الخبراء أهمية مردود الجهود و الإنجازات التى حققتها الدولة ومازالت فى سبيل الوصول الى الاكتفاء الذاتى لمواجهة المخاطر المتوقعة أو المحتملة نتيجة التغيرات الجيوسياسية فى المنطقة، وكذلك البناء عليها فى تحقيق نهضة زراعية صناعية تعزز تحقيق الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية.. وفى السطور التالية التفاصيل ..
المحاصيل الإستراتيجية.. سند فى مواجهة الأزمات
يد تزرع .. ويد تحرس
فى ظل الأزمات والضغوط العالمية، التى تؤثر على استقرار الدول، يكتسب تأمين الغذاء أهمية إستراتيجية لا تقل عن أهمية التسليح، إذ يمثل الأمن الغذائى ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع وتقدمه، وفى مصر تتضافر الجهود الوطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتى وتوفير احتياجات المواطن من الغذاء، حيث يعمل كل من جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ووزارة الزراعة على تطوير منظومة إنتاجية متكاملة تسهم فى تعزيز القدرات الإنتاجية وتخفيف معاناة القطاع المدني.
ومنذ عام 1982، تم إنشاء قطاع الأمن الغذائى فى إطار جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بهدف تطوير أساليب الإنتاج والتصنيع الغذائي، بما يتماشى مع أحدث التطورات العلمية والتكنولوجية. يسعى هذا القطاع إلى تحقيق أقل تكلفة وأعلى جودة للمنتجات الغذائية مع توطين التكنولوجيا الحديثة، كما يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتى للمواطنين من خلال تطوير الإمكانيات والخبرات الوطنية وتنمية الكوادر البشرية التى تلعب دوراً محورياً فى تنمية الاقتصاد القومي. ومن خلال مشاريع إنتاجية عملاقة، تمكّن الجهاز من المشاركة الفاعلة فى خطة التنمية الاقتصادية وتخفيف الضغوط عن القطاع المدني، مما يعكس رؤية إستراتيجية طموحة لدعم الأمن الغذائى على كافة الأصعدة.
قها وإدفينا
ومن أبرز قصص النجاح فى هذا المجال، إحياء شركتى «قها» و»إدفينا»، اللتين انعكستا كشراكة إستراتيجية، جمعت بين القدرات الصناعية الغذائية الوطنية والمشروعات التنموية فقد تم استغلال مساحة زراعية واسعة تجاوزت 148 ألف فدان فى مدينة السادات لتطوير الصناعات الغذائية، ما أسهم فى توفير الأغذية المحفوظة ذات الجودة العالية التى لعبت دوراً حيوياً فى دعم مختلف الفئات خلال فترات التحديات. وتعتبر شركة «قها» للأغذية المحفوظة مثالاً رائداً، إذ تأسست فى الأربعينيات بمدينة قها وتطورت عبر السنوات حتى أصبحت رمزاً للابتكار فى مجال التعليب، مع إعادة تأسيسها عام 1962 وإضافة مصانع متعددة تحت علامة موحدة تعكس التراث الصناعى الوطني.
سايلو.. متكاملة
وعلى نفس المنوال، برزت شركة «سايلوفودز» كأحدث مدينة صناعية متكاملة أنشئت فى مدينة السادات بالمنوفية، حيث أسست على مساحة 135 فداناً وتضم ٦ مصانع غذائية تعمل وفق أعلى معايير الجودة وشهادة الأيزو العالمية وقد اعتمدت «سايلوفودز» فى نظامها الإنتاجى على تقنيات إلكترونية متكاملة مع شبكة داخلية تنقل المواد الخام ومنتجات الطحن بين المنشآت الصناعية المختلفة، ما أحدث نقلة نوعية فى طريقة إدارة الإنتاج ولم تقتصر إنجازاتها على خطوط الإنتاج فحسب، بل شملت أيضاً إنشاء صوامع قمح بسعة تخزينية تصل إلى 280 ألف طن سنوياً ومطاحن متطورة ذات خطوط إنتاج عالية الطاقة، مما يعكس رؤية شاملة لتحديث البنية التحتية الزراعية والصناعية.
وتتجلى أهمية منظومة الأمن الغذائى أيضاً فى تعدد المشروعات والقطاعات التى تعمل بشكل متكامل لتعزيز الإنتاج الزراعى والصناعى والحيواني. فقد تم إطلاق العديد من المبادرات الزراعية المتميزة، منها المزارع المتخصصة فى الإنتاج الحيواني، مثل مزرعة شبرا شهاب التى تركز على التسمين والإنتاج الحيوانى بكفاءة عالية، إضافة إلى مشاريع إنتاج نباتى وحيوانى فى مناطق مختلفة مثل التل الكبير ووادى النطرون، حيث تم اعتماد منتجاتها بالكود العالمى للإنتاج والتصدير كما شهدت مناطق مثل وادى الملاك والفردان بالإسماعيلية ومزرعة 6 أكتوبر فى النوبارية توسعات ملحوظة من خلال استصلاح مساحات جديدة واستخدام تقنيات متطورة لاستغلال مياه الصرف الزراعى فى الاستزراع السمكى ورفع كفاءة نظم الرى لتغطية مساحات شاسعة.
شركات وطنية
ولا تقتصر النجاحات على هذا الجانب فقط، إذ أسهمت عدة شركات وطنية تتبع جهاز الخدمة الوطنية فى دعم مسيرة الأمن الغذائي. فقد تأسست الشركة الوطنية للصناعات الغذائية فى رفح عام 1996 بهدف التنمية وتوفير فرص عمل للشباب، مع استغلال الإنتاج المحلى من الزيتون والفاكهة. كما لعبت الشركة الوطنية للزراعات المحمية، التى انطلقت فى ديسمبر 2016، دوراً مهماً فى سد الفجوة الغذائية المحلية من خلال إنتاج أصناف خضروات عالية الجودة بأسعار مناسبة وتوسيع الشراكات المصرية فى الأسواق الخارجية، ما أسهم فى خلق فرص عمل جديدة ورفع كفاءة العمالة الزراعية وفى مجال الثروة الحيوانية، تهدف الشركة الوطنية للإنتاج الحيوانى إلى تنفيذ منظومة متكاملة تشمل مزارع تربية الماشية ومجازر آلية حديثة ومصانع لإنتاج منتجات الألبان، بهدف تقليل الفجوة الغذائية فى أحد أهم مصادر البروتين الحيواني، مع تحقيق التكامل بين مشروعات الإنتاج الزراعى وإنتاج الأعلاف لتخفيض التكاليف وتعزيز القيمة المضافة. كما شهد قطاع الثروة السمكية والأحياء المائية إنجازات ملموسة، حيث تم تنفيذ مشروع «الفيروز شرق التفريعة» فى بورسعيد لتطوير مراسى بحرية حديثة، إلى جانب تحديث وتوسيع الأسطول البحرى وتصنيع وصيانة مئات من مراكب الصيد، مما يعزز من قدرات الدولة الإنتاجية فى هذا المجال.
وتمثل هذه الجهود المتكاملة،التى يجسدها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية رؤية وطنية شاملة تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائى فى مصر من خلال تبنى أحدث التقنيات وتطوير البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية. إنها إستراتيجية حيوية تؤكد أن الأمن الغذائى ليس مجرد هدف زراعي، بل هو عماد أساسى لاستقرار الدولة وتقدمها، مما يضمن توفير الغذاء للمواطن فى أوقات الأزمات والضغوط، ويساهم فى بناء مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً للجميع.
الحلول المبتكرة فى الزراعة .. الطريق إلى حياة كريمة
سد فجوة الغذاء.. ركيزة أمن قومى
يظل الأمن الغذائى قضية جوهرية، تتطلب تكاتف جميع الجهات، بداية من دعم الأبحاث، وتعزيز دور الإرشاد الزراعي، وتحفيز المزارعين، إلى تحسين أنظمة التخزين والتوسع الإنتاجى محليًا وخارجيًا، ورغم الإنجازات التى تحققت، لا تزال هناك تحديات تتطلب مزيدًا من الجهود والاستثمارات لضمان تحقيق الاكتفاء الذاتى وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
وأكد خبراء الزراعة والاقتصاد لـ «الجمهورية الأسبوعي»، على ضرورة التفكير فى حلول مبتكرة، من بينها استغلال الأراضى الزراعية فى دول أخري، سواء عبر الشراء أو الاستئجار، لتوفير المحاصيل الأساسية، وكانت مصر قد بدأت بالفعل فى مشروع لزراعة القمح فى ولاية الجزيرة بالسودان، إلا أن الأوضاع الأمنية هناك حالت دون استمراره. ومع تحسن الظروف، قد يكون هذا النموذج أحد الحلول المستقبلية لسد فجوة الغذاء.
نجاحات بالأرقام
وشهدت مصر إطلاق مشروعات قومية طموح لاستصلاح الأراضي، من بينها مشروع «مستقبل مصر»، الذى يستهدف استصلاح مليونى فدان بحلول عام 2025، و4.5 مليون فدان بحلول 2027، مما يسهم فى تعزيز الإنتاج الزراعي، وتحقيق التنمية الريفية، وخلق فرص عمل جديدة. غير أن ندرة الموارد المائية تمثل تحديًا رئيسيًا لهذا التوسع، ما يستدعى تكثيف الجهود لتطوير نظم الرى الحديثة وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة.
وفى السنوات الأخيرة، نجحت وزارة الزراعة فى استنباط أكثر من 60 صنفًا وهجينًا لمحاصيل القمح، الشعير، الذرة، الأرز، والفول البلدي، مما ساهم فى زيادة إنتاجية الفدان بشكل ملحوظ. كما ارتفعت نسبة استخدام التقاوى المعتمدة للقمح من 40٪ إلى 70٪ فى الموسم السابق، ما يعكس تطور منظومة الزراعة وتحسين جودة الإنتاج الزراعي.
وعلى صعيد الصادرات،حققت مصر رقمًا قياسيًا بلغ 10.6 مليار دولار من صادرات الخضر والفاكهة، مما يعكس جودة المنتجات الزراعية وقدرتها على المنافسة عالميًا، وهو مؤشر مهم إلى نجاح سياسات الدولة فى القطاع الزراعي.
وفى إطار تعزيز الإنتاج الحيواني، نفذت الوزارة المشروع القومى للبتلو بتمويل زاد على 8 مليارات جنيه، مستفيدًا منه حوالى 43 ألف مرب، مع توفير نحو 500 ألف رأس ماشية، مما أسهم فى دعم صغار المزارعين وتقليل الفجوة الغذائية.
ركائز أساسية
أكد د. أشرف كمال، الخبير الزراعي، على أهمية تقليل الاعتماد على الاستيراد إلا فى حالات الضرورة القصوي، مشيرا الى إن تحقيق الأمن الغذائى يعد إحدى الركائز الأساسية للأمن القومي،حيث يمثل القطاع الزراعى أحد عناصر القوة الشاملة للدولة، وهو الحائط الأساسى لمواجهة التحديات الاقتصادية وضغوط الاستيراد.
وأضاف، أن الدولة المصرية تبذل جهودًا مكثفة لتحقيق الاكتفاء الذاتي،خاصة فى مجال الحبوب والزيوت،وفى مقدمتها القمح،الذى لا تتجاوز نسبة الاكتفاء الذاتى منه 45٪، فضلًا عن محاصيل البذور الزيتية التى تعانى من تدنى نسبة الاكتفاء الذاتى بشكل كبير، مشيرًا إلى ضرورة توافق الخطط الزراعية مع مصالح المزارعين من خلال تخطيط زراعى واضح يحقق الربحية لهم، ويوفر فى ذات الوقت احتياجات السوق المحلية.
وأشار الى أهمية ما اتخذته الحكومة المصرية من خطوات هامة لدعم القطاع الزراعي، حيث أعلنت استهدافها لأربعة قطاعات رئيسية لتنمية الاقتصاد الوطني، تشمل الزراعة، والصناعة، وتكنولوجيا المعلومات، والسياحة. ومن بين الإجراءات التى لاقت ترحيبًا، تبنى سياسة أسعار الضمان للسلع الإستراتيجية، حيث تم تحديد سعر الضمان لأردب القمح عند 2200 جنيه، مع إمكانية زيادته وفقًا لمتغيرات الأسعار العالمية، فضلًا عن تحديد أسعار ضمان لمحاصيل فول الصويا، وعباد الشمس، والذرة البيضاء والصفراء، مما يعزز توجه المزارعين نحو زراعة هذه المحاصيل.
شدد د. كمال على أهمية تقديم الدعم النقدى والعينى للمزارعين، موضحا أن قضية تفتت الحيازات الزراعية لا تزال تمثل تحديًا كبيرًا، إذ تؤثر على أكثر من 3.2 مليون مزارع، وتعمل الحكومة على مواجهة هذا التحدى من خلال توسيع منظومة الزراعات التعاقدية وتقديم تمويل ميسر بفائدة 5٪ لدعم المزارعين، وإن كان هناك حاجة لمزيد من تسريع الجهود عبر توفير الأسمدة الكيماوية بأسعار مدعومة وفقًا لاحتياجات المحاصيل، وتقديم تمويل ميسر أكبر، ورأى أن هذه الإجراءات تسهم فى تعزيز الإنتاجية، وتقوية منظومة الأمن الغذائي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
محاصيل متنوعة
أكد د. جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي،على الحاجة الملحة لتحقيق أكبر نسبة ممكنة من الاكتفاء الذاتي، مشيرًا إلى أن مصر تحقق اكتفاءً جيدًا فى قطاع الخضراوات والفواكه، إلا أن المشكلة الرئيسية تكمن فى القمح والزيوت، حيث تعتمد البلاد على الخارج لتغطية أكثر من 70٪ من احتياجاتها فى هذا القطاع.
وأوضح، ان الحل فى عدة محاور رئيسية، على رأسها ضرورة ضخ استثمارات تصل إلى 10 مليارات جنيه فى مجال الأبحاث الزراعية والمائية لاستنباط أصناف عالية الإنتاجية وأكثر تكيفًا مع الظروف البيئية الحالية. كما شدد على ضرورة إعادة تفعيل دور الإرشاد الزراعى والتعاونيات الزراعية لضمان تطبيق نتائج الأبحاث عمليًا فى الحقول، مشيرًا إلى أن الإنتاجية الزراعية يمكن أن تشهد قفزات كبيرة إذا ما تم تطبيق هذه المنظومة بالشكل الصحيح.
ويرى «د. صيام» أنه من الممكن رفع إنتاجية القمح فى مصر من 9 ملايين طن إلى 25 مليون طن عبر تفعيل منظومة البحث العلمى والإرشاد الزراعي. كما يمكن زيادة إنتاج الذرة والأرز بنسب غير مسبوقة عبر التوسع فى التنمية الرأسية وتحسين الإنتاجية.
وأضاف، أن التنمية الأفقية، التى تشمل استصلاح الأراضى الجديدة، تمثل خطوة هامة، إلا أن زراعة القمح والمحاصيل الزيتية فى الأراضى المستصلحة تواجه تحديات كبيرة بسبب التكلفة العالية، مما يستدعى تركيز الجهود فى الوقت الراهن على تحسين إنتاجية الأراضى القديمة، مع إمكانية استخدام تقنيات مثل زراعة فول الصويا تحت زراعات الذرة «نظام التحميل»، مما قد يوفر لمصر 10 ملايين فدان إضافية من فول الصويا، ويقلل الحاجة لاستيراد 4 ملايين طن سنويًا.
أشار، إلى أهمية الاستثمار فى تحسين قدرات التخزين، حيث لعبت الصوامع الجديدة التى أنشأتها الدولة دورًا هامًا فى تقليل الفاقد من المحاصيل، وتأمين احتياجات المواطنين لفترات أطول، مما يمنح الحكومة مرونة أكبر فى استيراد القمح وفقًا لأسعار مناسبة. وتعتبر مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم، حيث تستهلك أكثر من 21 مليون طن سنويًا، بينما يبلغ الإنتاج المحلى 9 ملايين طن فقط، مما يستلزم استيراد نحو 12 مليون طن سنويًا، مشيرا الى ان استثمار 1.5 مليار دولار فى إنشاء الصوامع الجديدة كان خطوة بالغة الأهمية لتعزيز الأمن الغذائى وضمان استقرار توفر رغيف العيش.