فى لحظة فاصلة من تحولات العالم، حيث تتراجع الصناعات الثقيلة عن عرشها التاريخى، ويصعد نجم الأفكار أكثر من الآلات، يصبح لزامًا على الدول التى تسعى لأن تجد لها موضع قدم فى المستقبل، أن تعيد قراءة الواقع من منظور جديد، لا يعتمد فقط على ما تمتلكه من خامات أو مساحات أو حتى أعداد، بل على ما يمكن لعقول أبنائها أن تنتجه من قيمة مضافة لا تُرى، لكنها تُشعِر وتُلهِم وتُثمِر.
إن ما يُعرف اليوم بـ»الاقتصاد الإبداعى» ليس مصطلحًا أكاديميًا مستحدثًا بقدر ما هو عنوان لمرحلة جديدة فى التاريخ البشرى.. تصنعه الفكرة، ويُدار بالعقل، ويُروَّج له بالذوق، وتُحصَد ثماره بالإقناع لا بالإكراه، هو الاقتصاد الذى لا تُقاس موارده بما فى باطن الأرض، بل بما فى داخل الإنسان.
وهنا فى مصر تمتد جذور الإبداع إلى ما قبل أن تكون هناك اقتصادات أو حتى تعريفات لها، هذا بلد خطّ أول حرف، ورسم أول تمثال، وصمم أول هندسة معمارية عرفها الإنسان، وإذا كان الإبداع هو الأصل، فإن مصر ليست غريبة عن هذا الميدان، بل هى من آبائه المؤسسين، وفى اللحظة الراهنة، نحناج إلى فتح نوافذ جديدة للدخل.. فمصر تمتلك ما لا تملكه دول كثيرة: «إرث حضارى، ثروة بشرية، وموقع جغرافى بين ثقافتين»، وأذكر ذات مرة، أننى استمعت إلى خبير اقتصادى عالمى يقول: «الدول التى لا تستطيع إنتاج التكنولوجيا، يمكنها أن تنتج الخيال»، وكان يقصد بذلك أن هناك فرصة حقيقية للمجتمعات النامية أن تدخل الاقتصاد العالمى من بوابة الإبداع.
وقد وصل الأمر إلى أن دولاً مثل كوريا الجنوبية بنت جزءًا كبيرًا من قوتها الناعمة وصادراتها القومية على «ثقافة البوب» و«الدراما التلفزيونية»، لتتحول الثقافة نفسها إلى سلعة قومية.
ووفق تقارير اليونسكو والأونكتاد، يساهم الاقتصاد الإبداعى بنحو 3٪ من الناتج العالمى، ويوفر أكثر من 30 مليون وظيفة. وفى دول مثل بريطانيا، تمثل الصناعات الإبداعية أكثر من 11٪ من الاقتصاد، بينما تحتل دول آسيوية مثل الصين وكوريا مراكز متقدمة فى التصدير الإبداعى.
إن الرهان على الاقتصاد الإبداعى هو رهان على الإنسان، هو انتقال من الاعتماد على ما نستورده، إلى ما نبتكره.. من تصدير المواد الخام، إلى تصدير الحكايات، والأفكار، والتصميمات، والمشاعر. من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الفكرة.
ولا بد أن نعى أن الخيال – إذا نُظِّم، واستُثمر، واحتُرِم – يمكنه أن يبنى أمة.. كما أن تجاهله يمكن أن يهدمها.