«إنى قائلٌ لكم جميعًا كلمةً لا أقول لكم غيرها بعد اليوم: إنى لا أُحب إلا من يُحبني، ولا أُكرم إلا مَن يُكرمني، ولا أُذعن إلا لرأيى وإرادتي، ولا أبيع حياتى وحُريتى بثمنٍ من الأثمان مهما غلا ، إنى لا أطلب منكم مالًا ولا معونةً، ولا أشكو إليكم فقرًا ولا عدمًا، وسأرسم لنفسى بنفسى خطةَ حياتي، فإن قُدِّر لى النجاح فيها فذاك، أو لا؛ فحسبى من السعادة أننى قضيتُ أيام حياتى حرًّا طليقًا، لا سبيل لأحدٍ عليَّ، ولا شأن لكائنٍ من الكائنات عندى حتى يُوافينى أجلي، وهذا فراق ما بينى وبينكم».
>>>>
«انتهى الاقتباس مما كتبه الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى وقفت كثيرا عند خطوط ومنحنيات تلك العبارات شديدة الألم ، وتساءلت لماذا يصل أحدهم إلى هذه الدرجة من الإحباط أو خيبة الأمل أو فقدانه ؟ الكلمات والعبارات تحمل معنيين ، احدهما مباشر وقريب لكنه يتسم بالضحالة والسطحية الشديدة وهو هنا يدور حول معانى عزة النفس والاستغناء والزهد والاعتماد على النفس وعدم انتظار ما لا ينتظر من جميع البشر المحيطين، قريبين وبعيدين».
>>>>
اما المعنى العميق والذى أشتمّ رائحته بوضوح وتكاد تزكم انفي، انه خيبة الأمل الممزوج بالإحباط والشعور بالخذلان ، هذا السياق تحكمه مفردات صعبة على القلب والوجدان فلا تمر مرورا لطيفا لكنها تتركب ندبات على صفحات نهر الشعور الإنسانى النبيل المتدفق ، وفوق السطح تطفو مشاعر العزة بالسيرة والاعتزاز بالمسيرة ، فيكون الاستغناء التام هو احد مراكب النجاة التى تستقلها النفس البشرية لتنقذ الروح من الذبول والانطواء، هذه المشاعر المتداخلة اسميتها تجاوزا «الاستغناء الإحباطي».
>>>>
فالإحباط يدفع الناس إلى مشارب شتي، فهناك من ينزوى ويستسلم ويذبل ويموت ، وهناك من ينزوى ويتحدى «ويعافر « مع مسببات إحباطاته فينتصر على الجميع لكنه – وللأسف- ايضا سيموت!، أتذكر هنا الإمام جلال الدين السيوطى الذى اعتزل الناس وانزوى محبطا من واقعه الصعب ، حيث كرهه الحكام ونبذه العلماء وسخر منه العامة ، اعتزلهم اجمعين وهو فى الأربعين وانكب للقراءة والكتابة والاجتهاد فأنتج للمكتبة العربية ما لم ينتجه مائة عالم من بنى زمانه وعصره .
>>>>
لم يمر عليه قطار السعادة والفرح فى حياته ، لكن نفس القطار توقف مجبرا عند مماته يفرغ على قبره حبا واحتراما وتقديرا، لكنه كان قد مات ايضا، العجيب اننا لا نعرف مقادير الناس فى حياتهم ولا نقف على حقيقة مشاعرنا تجاههم إلا بعد فقدهم ، فهناك كثيرون ماتوا كمدا وحسرة من الخذلان الذى تعرضوا له والتجاهل التام الذى واجهوه وفجأة نجد هؤلاء وقد استأذنوا فى الرحيل إلى العالم الآخر، لم يغادرونا فجأة ولم يخلفوا وعدا قطعوه على انفسهم ، لكنهم ابلغونا واخطرونا بل وحذرونا من انهم سيرحلون بلا عودة.
>>>>
لكننا أمعنا فى تجاهلهم وعدم الانتباه لما يقولون ، فكان الرحيل بلا عودة ، هنا نفيق ونستفيق فيفيض الدمع وينفطر القلب ونحدث انفسنا بأحاديث الندم والحسرة على ما لم نفعله وقت ان كان مطلوبا وواجبا ان نفعله، صدقونى يا ساداتى ان النفس البشرية يرضيها القليل من التقدير إذا جاء فى وقته وزمانه، يسعدها كلمة شكر ولمسة وفاء إذا كانت صادقة غير ملونة، تطربها نظرة إعجاب وتشجيع ودعم ولو بكلمات مجانية.
بيد أن الهدف الحقيقى الذى يبحث عنه الجميع هو الشعور بالسعادة وهذه لن تأتى بقرار ولا تباع ولا تشترى فبالأمان والمساواة وتكافؤ الفرص وحسن المعاملة تصل إلى مفرحات القلوب المجانية ، وعلى رأسها وذروة سنامها «جبر الخواطر».