الشاعر على العامرى:
الكلمة «حارسة الذاكرة» .. والديوان سردية شعرية مضادة للأكاذيب الإسرائيلية
على العامري، شاعر من الأردنّ وفلسطين، عائلته مُهجّرة من بيسان فى العام 1948، إثر الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين. وُلِد فى قرية وقّاص، وعاش طفولته فى القرية الحدوديّة، القليعات، فى وادى الأردن.. فاز مؤخرا ديوانه «فلسطينياذا» وهو كتاب شعرى من قصيدة واحدة بجائزة فلسطين الدولية للشعر مناسبة حوارنا معه وقد
شارك العامرى فى مهرجانات وقراءات شعريّة عربيّة ودوليّة وتُرجمت له قصائد إلى 11 لغة منها: الإسبانيّة والإيطاليّة والألمانيّة كما شارك فى عضويّة لجان تحكيم لعدد من الجوائز الأدبيّة والتشكيليّة وأقام معرضه التشكيليّ الأوّل «مرايا عميقة» فى عمّان، العام 2015
صدرت له أربع مجموعات شعريّة، هي: «هذى حدوسي.. هذى يدى المبهمة»، و«كسوف أبيض»، و«خيط مسحور» التى صدرت بطبعتين عربيّتين، وطبعة باللغة الإسبانيّة عن بيت الشعر فى العاصمة الكوستاريكيّة، سان خوسيه، كما صدرت له مختارات شعريّة بعنوان «كتاب الحدوس»..وهو أيضا عضو مؤسّس فى جماعة أجراس الشعريّة، وعضو مؤسّس ونائب رئيس جمعيّة عرزال للثقافة والفنون فى الأردنّ وهو منسّق قارّة آسيا فى حركة الشعر العالميّة.
العامرى يتحدث عن مخطط التهجير الذى يراه تحدياً لإرادة شعب لن يتنازل عن أرضه مهما كان الثمن، ويؤكد أن مصر على مدى التاريخ هى الأخ الأكبر والمدافع الأول عن القضية، وموقفها الثابت من التهجير هو الذى أوقف هذا المخطط
> ماذا تقول عن مخططات التهجير لأهالى قطاع غزة، وما رؤيتك للمستقبل؟
– فى البداية، من غرائب هذا الزمان، أن يتم طرح مخططات بهذا الشكل علناً على شاشات التلفزيون مباشرة، بكل غطرسة كما لو أن هذه الأرض ليس لها شعب يدافع عنها، إنّ مخططات التهجير القسرى ليست سوى هلوسة استعمارية وانقلاب ظلاميّ على التاريخ والجغرافيا والقيم والشرائع الأممية، تعيد للأذهان صورة الاستعمار القديم. هذه المخططات المسمومة لم تتوقف منذ النكبة حتى الآن، لكن الشعب الفلسطينى ليس تحت سنّ الرّشد، فهو صاحب الجغرافيا والتاريخ، وكلّ يوم يقدّم التضحيات ويقدّم للعالم كلّه دروساً فى الصمود فى أرضه التى لن يقبل لها بديلاً. وينقل كتابى «فلسطينياذا» صوت شعبنا الثابت فى أرضه على الرغم من المأساة المتدحرجة:
«لا نريدُ سوى أرضِنا/ لا نريدُ جحيمَ الشّتاتِ/ ولا جنةً فى الشّتاتْ».
وقد رأينا فى التمرين على العودة الكبري، طوفان أبناء فلسطين خلال عودتهم إلى شمال قطاع غزة مشياً على الأقدام وفى عربات تجرّها الدّواب وفى سيارات قديمة، وهم يعرفون أنهم عائدون إلى أرضهم المدمرة وإلى ظلال الحطام، بعدما دمّر الاحتلال الصهيونى بيوتهم ومستشفياتهم ومساجدهم وكنائسهم ومزارعهم ومتاحفهم وحدائقهم خلال الإبادة الجماعية الأخيرة. كلّ هذا يؤكد أن فلسطين هى طائر الفينيق الكنعانى الذى ينهض مجدداً ودائماً من الرماد ولن ينكسر مهما بلغت التضحيات وها هم أبناء غزة ينهضون مجدداً من بين الركام، ليعلنوا أنهم بُناة الأمل.
ما دور الأمة العربية وكيف ترى قرارات القمة العربية الطارئة الرافضة لمخططات التوطين، ودور مصر التاريخى فى دعم القضية الفلسطينية؟
فلسطين على مرّ التاريخ لم تكن جزيرة معزولة عن محيطها العربيّ الذى يشكّل السند الأخويّ الحقيقيّ، وبالتالى من الطبيعى أن نرى الاصطفاف الشعبى العربى دعماً لفلسطين وتحريرها وقد جاءت قمة القاهرة معبرة عن الحق الفلسطينى وحملت رداً عربياً حاسماً، أما مصر فلا تحتاج إلى كلام، فهى كانت على مرّ التاريخ بمثابة الأخ الكبير لكلّ العرب. ويشهد التاريخ بأن فلسطين حاضرة دائماً فى وجدان الشعب المصرى الذى يعرف جيداً اتجاه البوصلة الفلسطينية، ولم يَحِدْ عنها أبداً. ولا ننسى الدور الثقافى العظيم لمصر بكل رموزها، ودعمها للأدباء والمفكرين والكتّاب والفنانين الفلسطينيين، وفى مقدمتهم إدوارد سعيد ومحمود درويش. وبالتالى من الطبيعى أن ترفض مصر مخطط التهجير وتقف له بوضوح لتمنعه والموقف المصرى كان له الدور الأكبر فى إيقاف هذا المخطط وقد وجدنا الرئيس الأمريكى يعدل من لغته.
أيضاً كان طبيعيا أن ترفض وكل الدول العربية وكل أحرار العالم مخططات تهجير الشعب الفلسطيني، مهما كانت أشكال هذه الهلوسة الاستعمارية الاحتلالية، فأرض فلسطين من النهر إلى البحر لشعب فلسطين. ويعلّمنا التاريخ أن مصير الغزاة إلى زوال، وستبقى فلسطين الاسم الحركى للضمير العربى والعالمي.. وإذا كان العدو يريد أن يسرق كل شيء فلن نسمح له بل سنظل نكافح لنحمى أرضنا وحقوقنا.
يكشف عنوان ديوانك «فلسطينياذا» الفائز بجائزة فلسطين العالمية للآداب التى أقيمت فى بغداد نهاية العام الماضي، عن نفس ملحمى جديرة به أرض فلسطين وشعبها المنذور للمقاومة والصمود والتحرر، فإلى أيّ مدى تعتقد بقدرة الكلمة على المقاومة ؟
الكلمة قرينة المقاومة وحارسة الذاكرة، لأن الاحتلال الصهيونى الإسرائيلى الإحلالى لم يتوقف عند حدود الأرض فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى السطو على الإرث الثقافى الفلسطينى المادى والمعنوي، بهدف محو الذاكرة وتغييب السردية الفلسطينية، وتزوير الواقع والتاريخ القريب والعميق، من أجل تلفيق روايته الاحتلالية الاستعمارية عبر أكاذيب وخرافات كان قد دحضها المفكر الفرنسى روجيه غارودى الذى دفع ضريبة كبيرة لأنه نطق بالحقيقة. إن الكلمة دليل وجود، فاللغة العربية ولهجتها الكنعانية القديمة متجذرة فى فلسطين، وهى أحد أهم دلائل الوجود العربى الفلسطينى منذ القدم، فهى أرومة وجودنا، ومدوّنة ذاكرة الإنسان والأرض والزمن، فكل حجر ينطق بالحقيقة، مثلما ينطق بها النقش والأثر والكلمة.
يعرف الاحتلال مدى قوة الكلمة فى السردية الفلسطينية، لذلك عمل مقتدياً بكل الغزاة ومنهم هتلر الذى خصص فريقاً لنهب المتاحف والمكتبات والوثائق فى المناطق التى تجتاحها القوات النازية. وكان الاحتلال الصهيونى فعل الشيء نفسه بنهب المكتبات الفلسطينية والوثائق والمخطوطات والصور والخرائط وسندات الملكية الفلسطينية، منذ النكبة عام 1948، وصولاً إلى النكسة 1967، ثم خلال اجتياح بيروت، وخلال الأحداث اللاحقة فى الانتفاضة الثانية، وفى العدوان الحربى المتكرر على قطاع غزة.
لم يقتصر نهب الاحتلال للمكتبات، بل قام باحتلال الأسماء الكنعانية الأولى للقرى والبلدات والمدن، وسرقة المواقع الأثرية الفلسطينية، فى الوقت نفسه استمر فى ارتكابه مجازر الإبادة الجماعية، وتدمير شواهد تنطق بعروبة الأرض والتاريخ والمعنى الوجودى للشعب الفلسطيني. ويشهد على ذلك «الأرشيف الأسير» الذى سرقه الاحتلال ولا يزال يحتفظ به فى صناديق كُتبت عليها عبارة «أملاك متروكة» وضعها فى ثلاثة طوابق تحت الأرض فى «المكتبة الاحتلالية»، كما وضع جزءاً من الصناديق فى مخازن فى كلّ من القدس والناصرة ويافا وحيفا.
«سردية شعرية»
هل خططت من البداية لمسار الكتابة الشعرية فى كتاب «فلسطينياذا» الذى حفر عميقاً فى الزمن وقدّم سردية شعرية تقاوم الفناء، بمعنى هل قصدت ذلك من البداية أم ساقتك التجربة لتفاجئك النتيجة ومن ثم ولد العنوان ليصف الطريق؟
بذرة كتاب «فلسطينياذا» كانت تكمن فى قصيدة كتبتها بعنوان «مجنون التل»، إذ أحسست بأنها نواة لمسار أكبر وأوسع، لذلك صارت البذرة تنمو رويداً رويداً، إلى أن تشكّلت شجرة الكتاب، بعدما اتضحت الخطوط الشعرية فى هذه النصّ الشعرى الواحد والمتعدد الإيقاعات، والمُعمَّر بمرجعيات تعود إلى الثقافة الكباريّة نسبة لمغارة كبارة فى جنوب مدينة حيفا الفلسطينية، والثقافة النطوفية نسبة لوادى النطوف، والحضارة الكنعانية، فضلاً عن المراحل التاريخية اللاحقة التى أفصحت عنها ذاكرة الأرض ونهر الأردن وذاكرة العمل الفدائى وذاكرة الجد والأب والأُمّ، وذاكرة الابن والحفيد، وكذلك ذاكرة النكبة والنكسة والمقاومة والمنفى وذاكرة معركة الكرامة، وغيرها من محمولات الحياة اليومية التى قامت عليها العمارة الشعرية للكتاب. وبالفعل، كما ذكرتً فى سؤالك، يشكّل كتاب «فلسطينياذا» سردية شعرية مضادة لمقولة الاحتلال التلفيقية القائمة على الخرافات والتزوير والتحريف والأكاذيب «.
«حكمة الأشجار»
> هل ترى أن الديوان أحاط شعرياً بفلسطين التى تعرفها أم أن فى صدرك المزيد مما تريد أن تقوله، وهل يمكن لنا أن نقرأ قريباً الجزء الثانى من «فلسطينياذا»؟
فلسطين أكبر من كلّ الكتب، وأكبر من أن تحيط بها كل المؤلفات التى نُشرت عنها فى مختلف الحقول. وعلى سبيل المثال، يمكن كتابة الكثير عن تمثال عاشقى عين صخري، الذى يبلغ طوله 10 سنتمترات وميلمترين فقط، ويعود إلى 11 ألف سنة.
هذه بعض أمثلة على الثراء الثقافى والعمق الحضارى فى فلسطين، وكل تفصيل يمكن تناوله فى كثير من الكتب، ويمكن توظيف هذه العناصر فى مختلف الأشكال الإبداعية. ويتضمن معمار كتابى الشعرى «فلسطينياذا» الذى أهديته «إلى جدّى وأبى وأُمّي
الذين علّمونى حكمة الأشجار»، جزءاً من هذه العناصر مع مفردات من الطبيعة والتراث والذاكرة الفلسطينية، ضمن نسيج النص الذى جاء فيه:
ومع كل هذا، لا يزال لديّ ما أقوله فى سياق «فلسطينياذا»، ومن المتوقع مواصلة كتابة ملحمة شعبنا التى لا تنتهى ولا تحيط بها الكتب. وقد سبق أن أصدر الشاعر عز الدين المناصرة ديواناً بعنوان «كنعانياذا» فى بيروت عام 1983، وأتيت بعده لأكتب جانباً آخر من فلسطين، وسيأتى آخرون ليكتبوا فلسطين وفق منظورات مختلفة، إذ إن فلسطين لا تنتهي، والكتب عنها لا تنتهى أيضاً.
ما رؤيتك للشعر،وكيف ترى المشهد الشعرى فى الوطن العربى فى لحظة تحتفى بالرواية أيما احتفاء؟
الشعر يوسِّع وجودنا، وبالشعر تتفتّح وردة الحدس لنرى الجَمال الخفيّ فى الهامش والمنسيّ والمتروك والمتوارى والمهجور والمطويّ فى الذات والظّلال والزمن. وفى الوقت نفسه يفتح الشعرُ طريقاً مختلفاً لإدراك الغامض فينا، بصفته فاتحاً روائياً وعرفانياً. والشعر دليلنا إلينا، ومؤشر أرواحنا إلى القيم السامية. كما أنّ الشعر خزّان الأسئلة، من سؤال الوجود إلى سؤال الهوية وسؤال الحداثة، وهو النداء العميق للحرية، وصرخة الجَمال فى مواجهة الظّلم المُظلم فى كلّ خطوط الطول والعرض، وفى مجابهة محاولات مسخ الإنسان. نخسر كثيراً، لكننا دائماً نتعلم كيف نحبّ، ونتعلم كيف نبتكر الشموس فى زمن الظلاميّة الاستعماريّة الجديدة. لذلك يعمل الشعر على تشغيل طاقة الأمل، وإعادة تدوير معنى الوجود، وترميم الأرواح المكسورة، إذ إنّ الكتابة الشعرية اشتغال باللهب، وليست نزوة أبجدية.
تتكاتف كلّ أشكال الإبداع معاً لمضاعفة الحياة وتوسيع الوجود من خلال الحرية الخلّاقة. لكنّ الشعر يبقى محتفظاً بمكانته الأولى فى سيرة الإنسان، منذ الخطوط الأولى التى نقشها فى الكهوف إلى لحظتنا الراهنة، إذ إنّ الإنسان كائن مرموز، فهو موشوم بالعلامات والإشارات والتعاويذ والطلاسم،
قد يتقدم شكل إبداعى فى أيّ مرحلة، وربما يأتى تقدم الرواية الآن نتيجة لعوامل عدة، أبرزها التعويض عن فقدان دور الجَدّة الساردة، لذا تتحوّل الرواية إلى «شهرزاد المرحلة». ومع وجود تجارب إبداعية جديرة بمكافأة القراءة والدراسة، إلّا أن مشهد الكتابة السردية لا يخلو من «الاستشراق الذاتي»، وفق وصف الدكتور وليد سيف فى كتابه «الشاهد المشهود»، إذ تشكّلت ظاهرة كتابة «ما تطلبه الأسواق الغربية»، فنجد بعض الروائيين العرب يكتبون بحبر الاستشراق، ويُقدّمون صوراً نمطيّة عن مجتمعاتهم، طمعاً فى ترجمة أعمالهم ونشرها فى أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، وسعياً وراء أوهام العالمية والجوائز. لكن، مع تواصل حركة العَجَلة السردية بكل التجارب المختلفة، يبدو لى أنّ «التخمة الروائية» ستصيبنا لاحقاً، لندرك مجدداً أن الحياة ناقصة من دون الشعر، وأنّ العالم بحاجة إلى دخول «مصحّة شعرية» ليتعافى من التشويه الذى أصابه فى الصميم.
المشهد العربي
اما فى شأن الشعر العربي، فلا خوف عليه أبداً، فالأمّة ولّادة الشعراء، وفى نسغ اللغة العربية يجرى الشعر. كما أنّ الخريطة الشعرية العربية مضيئة بتجارب تستحق التقدير والقراءة والحياة، مع ملاحظة التنوّع والاختلاف والتفاوت الطبيعى بين تجربة وأخري. لكن، فى الوقت نفسه، هناك تجارب مصابة بوباء التشابه، تبدو «منسوخة»أو «ممسوخة» أو «منسوجة» على منوال آخرين.
> ما أبرز مرجعياتك فى تجربتك الشعرية؟
مرجعياتى الشعرية متعددة، بدءاً من التهجير القسرى لأهلى من قرية زبعة فى قضاء بيسان، وبهذا كان الفقدان علامة أولي، مثل نهر الأردنّ الذى يشكّل الجرح الجغرافيّ من جهة، والشاهد المائيّ على المقاومة وهزائم الغزاة، من جهة ثانية، مثلما يشكّل ذاكرة حيّة لسيرة الأجداد. وتعدّ أرضُ الطفولة فى قرية القليعات جارة النهر الواقعة قبالة فلسطين تماماً، إحدى مرجعياتي، إذ إنّ طفولتى نبع شعريّ لا ينضب أبداً. فى تلك الطفولة البرّيّة التى عشتها استمعت لقصص فلسطينية من مرويّات جدّى وأبى وأمّي، وتعرفت على أسماء قرى وبلدات ومدن وأنهار ونباتات وأشجار وطيور وحيوانات برّيّة فى فلسطين. وفى طفولتي، كانت جدّتى ساردة للحكايات الشعبية الخرافيّة، التى عرفت لاحقاً أنها تعود إلى جذور أسطورية، فالحكاية تهاجر شفهيّاً عبر الأمكنة والأزمنة لتغدو خزانة الخيال المفتوحة للأجيال. ولا تزال مشاهد الحرب والملجأ الذى حفره والدى بجانب صخرة كبيرة فى محيط بيتنا الطينيّ، حاضرة فى ذاكرتي، مع مشاهد الفدائيين بملابسهم المُرقّطة وأسلحة الكلاشنكوف، وكذلك مشاهد العمليات الفدائية غرب نهر الأردن، ووميض الرصاص، ومشاهد دبابات الاحتلال الإسرائيلى التى غنمها الجيش الأردنى خلال معركة الكرامة التى تحقق النصر المشترك فيها للفدائيين والجيش. ولا أزال أتذكر رسائل الحب التى كنت أدفنها تحت شجيرة سدر بريّ فى الجبل، إلى جانب السباحة فى نهر الأردن التى تبدو كما لو أنها «تعميد مبكر» بتلك المياه التى شهدت جانباً من سيرة المسيح الفلسطيني. وبهذا كلّه، تشكّلُ مسارات حياتى وتجاربى والأماكن والاصدقاء والكتب التى قرأتها والحرب والحب والتراث والحكايات ودفتر الطبيعة جزءاً من شبكة مرجعياتى الثقافية والشعريّة.
> هل تعتقد، وقد ترجمت أعمال شعرية لك إلى عدة لغات، أن الشعر العربى الآن حاضر بصورة مُرضية فى الأدب العالمي؟
لا تخفى أهمية الترجمة فى النهضة الشاملة، وفى تعمير العلاقات بين الثقافات، وفى تعزيز العيش المشترك بين الشعوب، وفى التعاون والتبادل الثقافي، وفى هجرة الخبرات والمعارف. ولنا شواهد من تاريخنا العربي، فى بيت الحكمة ببغداد ودوره فى الترجمة، وفى دار الحكمة فى القاهرة، وبيت الحكمة فى القيروان وغيرها من مراكز الإشعاع الثقافي. لكن الآن، تبدو ترجمة الأدب العربى دون الطموح، بل يمكن القول إنها حركة ضعيفة جداً، مقارنة بحجم نتاج الأدب العربى خلال العقود الأخيرة، فضلاً عن حجم التراث الأدبى الكبير. ويعود ذلك إلى غياب مشروع عربى استراتيجى للترجمة المتبادلة بين العربية ولغات العالم، بحيث يُعنى بنقل إبداعاتنا الأدبية والفكرية إلى القارات، ونقل آداب الآخرين إلينا. ومع ذلك، لا تخلو دولة عربية من برامج أو مشروعات أو جوائز للترجمة، لكنها محدودة الميزانيات والإمكانات. ويلاحظ أنّ جزءاً من المجهود الترجمى يقوم على مبادرات شخصية، مع تفاوت واضح فى درجة نجاح هذه الترجمات، وهذا يعود إلى غياب «نقد الترجمة» فى الثقافة العربية حالياً، وغياب تحفيز المترجمين وتطوير مهاراتهم، وتدنى تقدير جهودهم الكبيرة.
يصف بعض النقاد الصورة الشعرية بأنها «القوة المطلقة» فى الشعر وبعضهم يصف الصور القوية بالزلازل، حيث تتشكل الصورة لديك بطرق شتى وتدفع النص إلى جماليات أكثر ارتباطا بالواقع، فكيف تنظر كشاعر ورسّام لقيمة الصورة فى النص الشعري؟
الشعر فن يقوم على التجاوز، وعلى المجاز والتكثيف اللغوى والشحنة التعبيرية والمعمار الفنيّ، لذلك تأتى الصورة الشعرية ضمن هذا المفهوم قنطرة للتراسل بين المحسوس والمعنوي، بين الجزئى والمطلق، بين المتن والهامش، بين الظاهر والجوّانيّ، وبين الغامض والواضح. وهذا ما يعكس تآخى الفنون أيضاً، إذ تهاجر عناصر فن إلى فن آخر، وقد عبّرت تجارب كثيرة عن هذا التراسل وهذا التآخي، من خلال تجارب بين الشعر والرسم، وبين المسرح والرسم والشعر، وبين الشعر والموسيقي، وغير ذلك. كما برزت ظواهر تجريبية عبر ما يسمى القصيدة البصرية، والشعر الأدائي، والقصيدة الضوئية وغير ذلك. وفى تجربتي، تتراسل الكلمة مع الفن التشكيلي، حتى أننى أرسم كشاعر.
بدا التناص لافتاً ومقصوداً فى عنوان «فلسطينياذا» ليحيلنا إلى ملحمة هوميروس الشهيرة «الإلياذة»، وفى داخل كتابك الشعريّ يتجلى التناص مع النص القرآنى فى قولك: «وهنا، حتّى الطينُ يضيءُ/ كأشجارِ الزّيتونِ/ ولو لم تَمسَسْه شرارةُ نار»، فكيف تنظر إلى فكرة تحاور النصوص بشكل عام وقدرة ذلك التحاور على توليد جماليات جديدة، فضلاً عن نقل الرؤية الشعرية من مخيلة الشاعر إلى وعى القارئ؟
نعم، التناص يأتى من خلال شبكة المرجعيات الحياتية والقرائية، وفى هذه الحالة يتكثف كل المحمول الجمالى والمعرفى والوجدانى فى إشارة أو كلمة أو عبارة، لأن التناص، مثلما قلت فى سؤالك، يحيل إلى تلك المرجعية ومخزونها. من هنا جاء العنوان فى كلمة مركّبة من اسم فلسطين واسم ملحمة هوميروس «الإلياذة»، ليقول العنوان «فلسطينياذا» الكثير فى كلمة واحدة. ومع أنّ التناص يسهم فى التكثيف التعبيري، وينقل القارئ إلى أرض مشتركة، إلّا أن هذا التناص قد يأخذ القارئ إلى الاستكشاف والتأمل والنظر من جديد، لأن التناص قد يتضمن انزياحات لغوية ودلالية، تحفزه على مزيد من البحث عن تلك المرجعيات النصيّة.
> ماذا تعنى الجوائز للشاعر بشكل عام، وماذا تعنى لك جائزة فلسطين العالمية للآداب بشكل خاص؟ ومن جانب آخر، كيف تنظر إلى درجة مصداقية الجوائز الادبية العربية؟
قصيدتى مظلّتى الوحيدة، وأنا تلميذ الأبجدية والحب والحياة، لا أنضوى تحت راية أحد، لأننى مظلّة نفسي، وسأبقى كذلك ما حييت. علّمتنى القراءة والكتابة أن أتأنّى من غير تأخير، وفق الشعارالذى وضعته لى «تمهّلْ، لكنْ لا تتأخّر». كما علّمتنى التجربة أن أتخلّص من الأوهام الشخصية، حتى أكون ما أنا عليه الآن، فلم تعد تهمّنى الجوائز أو العالمية أو الشهرة أو غيرها من الأوهام. ولكنْ، مع كل هذا، فإنّ للتكريم الحقيقى وقعاً وجدانياً لدى أيّ مبدع، مع الأخذ بالاعتبار ما كتبه الشاعر زهير أبو شايب عن كتابى «فلسطينياذا» على الغلاف الأخير، بأنه «جدير بالثناء والقراءة التى هى أهمّ مكافأة يمنحها القارئ للنصّ الحيّ». وبالفعل، إنّ القراءة هى أكبر المكافآت التى يمكن أن يحظى بها أيّ مؤلف. أمّا عن جائزة فلسطين للآداب، فهى ذات معني، لأنها تحمل اسم فلسطين، أعلى الأسماء الحسنى للأرض التى أنجبت الضوء والكلمة والفداء وسنبلة القمح الأولي.
وعن مصداقية الجوائز الأدبية العربية، فهى متفاوتة، إذ يلتزم بعضها بالمعايير الإبداعية بعيداً عن سطوة بعض الأسماء المشاركة، بينما يقوم بعضها الآخر على مجاملات وعلاقات، وربما على حسابات متعلقة بالمواقف السياسية حيناً، أو بالتوزيع الجغرافى حيناً آخر.