بخطى ثابتة وواثقة، تمضى الدولة فى عملية الإصلاح الاقتصادى.. صحيح أن هذا الإصلاح يأتى فى ظروف اقتصادية عالمية صعبة، نتيجة للحروب والنزاعات الدولية والإقليمية، ما يترك معاناة اقتصادية واجتماعية على كل المواطنين، خاصة من ذوى الدخول الثابتة والمحدودة.. ولكن التوجيهات الرئاسية لا تتوانى عن تقديم الدعم والحماية الاجتماعية لمثل هذه الفئات تخفيفاً للأعباء عن كاهلهم قدر الإمكان.. لاسيما إذا كان الغرض من تحريك أسعار بعض المحروقات كبنزين السيارات فيه قدر كبير من تحقيق العدل الاجتماعى بين شرائح وفئات المجتمع.. وهذا فى الحقيقة شجاعة تحسب للقيادة السياسية التى امتلكت الجرأة على التعامل مع تلك الملفات من أجل تقليل الدعم وتقليص الفجوة بين الأسعار العالمية والأسعار المحلية.. فلم يكن من المنطقى أن تدعم الدولة أصحاب السيارات الفارهة، بل حتى المتوسطة أو مركبات الشركات الكبرى والسفارات الأجنبية على حساب المواطن البسيط الذى يستخدم المواصلات العامة أو يمتلك دراجة بخارية أو ربما يفضل السير على قدميه فى المشاوير البسيطة.
من هذا التصور الذى قد يختلف فيه معى الكثيرون، أنظر إلى القرارات الأخيرة التى لن تكون الأخيرة فيما يتعلق بأسعار البنزين بالذات، وأن الأمر بالتأكيد صعب، بل حرج بالنسبة لأسعار السولار والغاز، وإن كانت الحكومة ستحاول على قدر استطاعتها التخفيف من تداعيات ذلك على الفئات التى تتأثر بهذه الزيادات، خاصة فيما يتعلق بعربات الميكروباص والنقل الجماعى أو رغيف العيش السياحى غير المدعم، خاصة فى ظل حالة الجشع والنهم فى الكسب الكبير من أصحاب المخابز وتجار الدقيق وغيرهم من أباطرة الأسواق الذين يتخذون من آليات السوق والعرض والطلب قانوناً أشبه بالسكين الذى يذبح به المواطنون المغلوبون على أمرهم فى هذه المعادلة الصعبة.
>>>
ولكن على كل الأحوال، أتصور أن الدولة جادة فى هذا الإصلاح الاقتصادى، وأن الأصوات العالية التى اعتادت أن تخيف حكومات سابقة وتمنعها عن المضى فى مسار الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى، فإن المتغيرات والسياسات الجديدة للحكومة تفرض عليها أن تتعامل مع هذا الواقع الجديد بأساليب أخرى، أولها التشريد والتواؤم معه.
فبصراحة شديدة، إن السيارات الخاصة فى شوارعنا زادت على الحد خلال الثلاثين عاماً الأخيرة بصورة غير معقولة.. انظر الآن إلى طوفان السيارات الذى لا يتوقف على مدار اليوم وحتى ساعات متأخرة من الليل، لدرجة تحول دون عبور شخص ما للطرق، خاصة بعد توسيعها.. واندهش كيف تحولت شوارعنا إلى مسارات تشبه ساحات السباق وتحولت أيضا إلى جراجات بسلاسل حديدية أمام البيوت مدفوعة الأجر لدى محافظة القاهرة فى تحد سافر وغريب لكل الآخرين الذين لا يمتلكون سيارات لحين رهن مرتباتهم لدى البنوك والحصول على قروض للدخول فى هذه الدائرة الجهنمية.
يحدث هذا رغم التوسع والتطوير الهائل الذى حدث فى وسائل النقل الجماعى، وفى مقدمتها مترو الأنفاق بخطوطه الثلاثة الممتدة حتى أطراف القاهرة الكبرى.
كان من المتصور والمنطق مع هذه المعادلة، أن تقل السيارات الخاصة أو تقف عند حد معين، لا ان تتزايد وتتفاقم لدرجة مقلقة، جعلت القيادة السياسية نفسها تشير خلال افتتاح محطة قطارات الصعيد إلى أنه يتم استيراد سيارات من الخارج بمبلغ 25 مليار دولار سنوياً مع سلع أخرى استفزازية غيرها، دون أن نسأل أنفسنا لماذا يرتفع سعر الدولار فى بلدنا دوناً عن البلدان الأخرى؟!
>>>
باختصار، إن الإصلاح الاقتصادى أمر لا مفر منه، وأنه على كل شخص أن يتعامل مع تداعياته بقدر من ظروفه وقدراته وامكاناته، لاسيما ان كان هذا الإصلاح يمضى فى خط مواز مع الحماية الاجتماعية لغير القادرين، الذين يجب هم أيضا أن يكونوا عند المسئولية فى التعامل مع الحياة بعيداً عن الإنجاب غير المحسوب أو أن يكونوا عالة على غيرهم.
هكذا تفعل كل الدول المتقدمة الغنية فى تحقيق الاصلاح والترشيد والعدل الاجتماعى.. وهكذا نتمنى لبلدنا فى ظل مواطن واع مسئول، وحكومة رشيدة تحسن إدارة دفة المركب الذى يطفو بنا جميعاً.