مازال الحديث مستمرا حول الإستراتيجية الوطنية للتصنيع التى تنتهجها الدولة المصرية.. وقد حققت بشأنها خطوات بالغة التأثير والأهمية خلال السنوات الماضية. والحقيقة أنه منذ تولى الفريق كامل الوزير نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والنقل هذا الملف، وهناك نقلة نوعية واضحة فى إستراتيجية تنفيذ التصنيع فى مصر. وأتحدث اليوم عن توطين صناعة السيارات.. ففى قلب التحولات الاقتصادية الطموح التى تشهدها مصر، يبرز ملف توطين صناعة السيارات كأحد المحاور الاستراتيجية ذات الأهمية القصوي، ليس فقط لما يمثله هذا القطاع من ثقل اقتصادى عالمي، بل لما ينطوى عليه من إمكانيات هائلة لدفع عجلة التنمية المستدامة، وتوفير فرص العمل النوعية، وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطنى على الصعيدين الإقليمى والدولي.. إن فكرة توطين صناعة السيارات فى مصر ليست وليدة اللحظة، بل هى رؤية إستراتيجية طالما تطلعت إليها القيادة السياسية والاقتصادية، إدراكا منها لما يمكن أن يحققه هذا القطاع من قيمة مضافة للاقتصاد القومي، بدءا من توفير العملة الصعبة عبر تقليل الاعتماد على الاستيراد، ومرورا بتحفيز الصناعات المغذية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ووصولا إلى اكتساب الخبرات وتوطين التكنولوجيا المتقدمة فى هذا المجال الحيوي.
تتعدد الدوافع الكامنة وراء هذا التوجه الإستراتيجي، فمصر تتمتع بموقع جغرافى متميز يربط بين قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، مما يجعلها مركزًا لوجستيًا واعدًا لتصنيع وتوزيع السيارات إلى الأسواق الإقليمية والقارية.. بالإضافة إلى ذلك يمثل السوق المصرى سوقًا استهلاكيًا كبيرًا ومتناميًا، مع تزايد الطلب على السيارات بأنواعها المختلفة، وهو ما يوفر قاعدة استهلاكية قوية للصناعة المحلية. كما أن توافر الأيدى العاملة الشابة والمؤهلة، مع تكلفة إنتاج تنافسية نسبيًا، يشكل ميزة إضافية تجعل من مصر وجهة جاذبة للاستثمارات المحلية والأجنبية فى قطاع صناعة السيارات.
على صعيد الجهود الحكومية فقد تبنت الدولة المصرية إستراتيجية متكاملة لتوطين صناعة السيارات، تقوم على عدة محاور رئيسية، تشمل تقديم حوافز وتسهيلات استثمارية لجذب الشركات العالمية المتخصصة فى تصنيع السيارات ومكوناتها، وتطوير البنية التحتية اللازمة لهذه الصناعة، من مناطق صناعية مجهزة وشبكات طرق وموانى متطورة، بالإضافة إلى دعم البحث والتطوير والابتكار فى مجال صناعة السيارات، وتأهيل الكوادر الفنية والمهنية القادرة على تلبية احتياجات هذا القطاع المتطور.. كما تولى الحكومة اهتمامًا خاصًا بتنمية الصناعات المغذية لصناعة السيارات، مثل صناعة قطع الغيار والإطارات والبطاريات والمكونات البلاستيكية والمعدنية، وذلك بهدف تعميق التكامل الصناعى وزيادة نسبة المكون المحلى فى السيارات المنتجة فى مصر. وقد بدأت بالفعل تظهر ثمار هذه الجهود، حيث شهدت مصر فى الآونة الأخيرة تدفقات استثمارية جديدة من كبرى شركات صناعة السيارات العالمية، التى أعلنت عن خطط لإنشاء مصانع جديدة أو توسيع مصانعها القائمة فى مصر، وهو ما يعكس الثقة المتزايدة فى الإمكانيات الكامنة فى السوق المصرى وقدرته على أن يصبح مركزًا إقليميًا لصناعة السيارات.. كما أن هناك مبادرات حكومية لدعم تحول مصر نحو السيارات الكهربائية، إدراكًا لأهمية هذه الصناعة فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة، وتشمل هذه المبادرات تقديم حوافز لتصنيع واستخدام السيارات الكهربائية، وإنشاء البنية التحتية اللازمة لشحن هذه السيارات.
ومع ذلك، فإن مسيرة توطين صناعة السيارات فى مصر لا تزال تواجه بعض التحديات التى تتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية، سواء الحكومة أو القطاع الخاص أو المؤسسات البحثية والتعليمية. من بين هذه التحديات، الحاجة إلى تطوير القدرات التنافسية للصناعات المغذية المحلية، ورفع جودة منتجاتها لتلبية المعايير العالمية. بالإضافة إلى ضرورة توفير المزيد من الكوادر الفنية المؤهلة وتحديث المناهج التعليمية والتدريبية لتواكب التطورات السريعة فى صناعة السيارات.. كما أن استمرار جهود تبسيط الإجراءات وتذليل العقبات البيروقراطية، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة ومستقرة، يعد أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق الأهداف المنشودة فى هذا القطاع.
إن توطين صناعة السيارات فى مصر يمثل فرصة تاريخية لتحقيق نقلة نوعية فى الاقتصاد الوطني، وتعزيز مكانة مصر كقوة صناعية إقليمية. ويتطلب تحقيق هذه الرؤية تضافر الجهود واستمرار العمل بروح الفريق الواحد، مع الالتزام بتنفيذ الإستراتيجيات والسياسات الهادفة إلى تطوير هذا القطاع الحيوي، وتذليل العقبات التى قد تعترض مسيرته، من أجل مستقبل أكثر ازدهارًا ورخاءً لمصر وشعبها..
وللحديث بقية.