كانت تعريفات الأمن الثقافى – فى معظمها – تتمحور حول الموروث والمكتسب من المعارف المقدسة والإنسانية، والإبداعات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية، التى تشكل أنماط السلوك الحياتى التابع لأمرين: الأول وهو الوجدان ومدى التفاعل العاطفي، والثانى وهو المعتقد ومدى الإعتقاد الفكري، وهما الدافعان الأساسيان لصياغة الثقافة.
لكنه من الواجب النظر بعين الإعتبار لمفاهيم أخرى موازية وهى «الحضارة» و»المدنية» و» المعرفة» ومدى التشابك بالإختلاف أو الإتفاق بين كل منهم منفردين مع مفهوم «الثقافة» ولأن «الحضارة» فى تعريفاتها لغة واصطلاحا راحت المعاجم إلى حصر تعريفها فى الإنتقال المكانى – الملموس – من البداوة إلى الحضر، وفى اللغة؛ مأخوذٌ من الفعل حضر، فالحضارة هى عكس البداوة التى يعيش فيها النّاس حياةً قبليّةً، أما «الحضارة» اصطلاحاً فهى تعني: مجموعة المظاهر العلميّة، والأدبيّة، والفنيّة، وكذلك الإجتماعيّة، الموجودة فى المجتمع،… وفى الإصطلاح كان التعريف يحوم حول تراكمات الإبداع الفكرى والفنى والأدبي، وهنا موضع الخلاف – من وجهة نظرى – حيث اتفقت القواميس اللاتينية – أمهات اللغات الغربية – حول اتفاق وتطابق الثقافة مع الحضارة واختلافهما مع المدنية (الحضارة Culture والمدنية Civilization) وهنا يتعين تقديم تفنيد لمفهوم «المدنية» التى يتفق الكثيرين من المفكرين وعلماء الانثربولوجى حول معانى متقاربة – إلى حد ما – نحو ما يعنى أنها – المدنية – هى النتاج الملموس من المعرفة التراكمية، ومن الممكن انتقالها من مجتمع لآخر، بعكس الحضارة التى تعد قاصرة – زمانا ومكانا – على مجتمع واحد بعينه، وهنا نتحدث عن أن «المدنية» لها صفتا التراكمية والإنتشار، وأدى الحديث عن «المدنية» إلى الذهاب لمفهوم «المعرفة» التى تعني: الإدراك والوعى وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد، أو بطريقة اكتساب المعلومات بإجراء تجربة وتفسير نتائج التجربة، أو تفسير خبر، أو من خلال التأمل فى طبيعة الأشياء وتأمل النفس، أو من خلال الإطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم،… ومن المهم هنا الإشارة إلى أن المعرفة تعتمد فى مراحلها الأولى على المسلمات والبديهيات(!) وهذه الحقيقة تحتاج إلى جهد مضن للبحث من خلاله على أصل المعرفة ومرتكزاتها الأساسية،… ونفند – هنا الآن – لبعض تفسيرات المفكرين والفلاسفة والعلماء نحو المفاهيم الثلاثة، وعن مفهوم «الحضارة» كانت نظريّة شبنجلر: تحدّث الفيلسوف الألمانيّ أوزوالد شبنجلر (1880- 1936) عن الحضارة فى كتابه الشهير (انحدار الغرب – أصدره عام 1918) محذراً من نهاية عواقب وخيمة بسبب الصراعات البينية الدموية داخل أوروبا، حيث ذكر أنّها –الحضارة– كالكائن الحى الّذى يمرّ بمراحل مختلفة فى حياته من طفولة، وشباب، ونضوج، وشيخوخة (وهنا أحيل القاريء العزيز للبحث فى أسباب الحرب العالمية الثانية ونتائجها).
ونظرية توينبي: أرنولد جوزف توينبى وهو مؤرخ بريطانى (1889 – 1975) أهم أعماله (موسوعة دراسة التاريخ) وهو من أشهر المؤرخين فى القرن العشرين، وتحدث عن «الحضارة» فى موسوعته والتى بذل توينبى من أجلها نحو أربعين عامًا فى دراسة التاريخ (أثنى عشر مجلدًا، قسم فيها الحضارات البشرية إلى إحدى وعشرين حضارة) تحدث فيها عن اندثار معظم الحضارات الأشهر، ولم يتبق غير حضارات تتجه غاية الفقد والمحو التدريجي، وعندما تحدث عن الحضارة الغربية (أوروبا وأميركا واستراليا) فمازالت وفق تصوره مجهولة المصير.
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أحيل القاريء – المهتم – الى مطالعة كتابه (الوحدة العربية) الذى يعد مبلغ اهتمام توينبى بالتاريخ العربى واللغة العربية والإسلام، حين توقع تمام الوحدة العربية فى منتصف سبعينات القرن الماضي، بحيث نظّر لتحقيق الوحدة العربية، فقد كتب عن استنتاجه المستقبلى فى أمر الوحدة فى حدود عام 1974، كما فعل الألمان والإيطاليون،… وأيد توينبى «القضية الفلسطينية» ودحض الافتراءات الصهيونية، فكتب: أنكم تطالبون بحق اليهود فى العودة إلى فلسطين، على الرغم من أنه لم يكن فى فلسطين عام 1935 سكان يهود.
وإلى الحلقة القادمة