قبل أن نترك الحديث عن الأمن الثقافى والمقاربات مع دلالات عدد من المفردات التى قد تبدو متشابهة للوهلة الأولى فى معناها المباشر مع الثقافة مثل: (الحضارة والمدنية والمعرفة)؛ كان من المهم الإشارة إلى صفات كل مفردة حتى نقطع دابر هذا الاشتباك من التفاهم أو التنافر بين تلك المفردات فى دلالاتها وبين مفردة الثقافة، وهنا نجد أولاً أن الحضارة مفردة تعنى فى جغرافيتها الالتزام بمكان تنشأ تلك الحضارة فيه، بل وتنتسب اسميًّا باسم مكان ولادتها، كما فى الحضارة الأقدم على مر التاريخ وهى الحضارة المصرية، ومن بعدها الصينية فالهندية واليونانية والرومانية والفارسية والآشورية والبابلية… وغيرهما، اتخذت من أسماء الجغرافيا التى ولدت ووجدت على أرضها نصيبًا ونسبًا من اسمها. وهنا اشتباك آخر.
وحتى لا ينفرط عقد الحديث وتراتبيته سنعود من جديد إلى مفردة الحضارة ونعرف بعضًا من صفاتها ومدى اتساقها مع الثقافة فى صفاتها؛ فنجد أن الحضارة لها مكان وزمان ومراحل ابتداء وتطور وصعود وانزواء وغروب وطمس، ولذا يعتقد عبدالرحمن بن مُحمَّد بن خلدون الحضرمى (1332- 1406) «… أنّ جميع الحضارات التى نشأت أخذت بالتوسع شيئًا فشيئًا، حتى صارت عامرةً ومزدهرةً، ومع مرور الوقت يزول هذا الملك والعمران وينتقل إلى أمم أخري…»؛ فالحضارات المكانية التى هى ترتبط بشعب وأرض لها عمر زمنى واحد جغرافي، وهى غالبًا ما تسكن أفكار هذا الشعب، وتنعكس ماديًًا فى شكل مدنية هذا الشعب، ومن هنا يظهر اصطلاح المدنية الذى هو النتاج المادى للحضارة، وهو بمثابة الانعكاس على الأرض لتلك الأفكار التى سكنت العقول والأحلام والطموحات والآمال لهذا الشعب.
وهنا يقول الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط (1724- 1804) إن «… المدنية التى هى أكثر تعلُّقًا بالمظاهر الخارجية للسلوك».
ومن خلال سعى الجمهور إلى التمتع بحضارته عبر تراكم معرفى من إنتاج العقل المحلى أو مستورد من الحضارات المجاورة متنافسة كانت أو متهادنة مما يأتى بمحصلة المعارف فى الارتقاء بمظاهر المدنية.
وأيضًا يفرق ألفرد فيبر بين المدنية والحضارة: « …فالمدنية تقبل أن تُنْقَل وتتوارث من جيل إلى آخر، وكل جيل يبدأ فى مدنيته عند النقطة التى انتهى إليها الجيل السابق…».
وهنا تتفكك بعض التشابكات بين المفاهيم، وهى أن الحضارة التى لها زمان -طال أم قصر- ولها حد جغرافي- اتسع أم قصر- هى إلى زوال، عدا مفردتين نتجتا من هذه الحضارة، وهما: المعرفة والمدنية، فهما سينتقلان حتمًا إلى زمان آخر لذات الأرض وشعب تالٍ، أو ينتقلان بالكلية أو بالجزئية إلى حضارات مختلفة مجاورة أو ناشئة أو محتلة، إذًا فالحضارة ليست لها صفة الديمومة وأيضًا المعرفة والمدنية لها صفتا التراكمية، فما نعرفه اليوم يزيد بمتوالية هندسية وليست عددية عما كنا نعرفه أمس وقبل الأمس وقديمًا وهكذا، وأيضًا مظاهر المدنية التى نعيشها اليوم ونتوقعها غدًا ليست هى التى كانت أمس أو فى الأزمنة السابقة (أيامًا كانت أم سنوات أم عقوداً، وربما دهور سحيقة).
وكذلك يفرق بين مفهومى الحضارة والمدنية روبرت مريسون مكيفر (1882ـ 1970) ويرى «المدنية» تتعلَّق بالوسائل والآليات والأدوات، أما «الحضارة» فمكنونها الغايات؛ فالمدنية تشتمل على مظاهر التقدُّم الصناعى والاقتصادى والعمارة والفلك والفيزياء والرياضيات،… أو بوجه عام العلوم التطبيقية؛ لذا تعد المدنية وسيلة لا تُقْصَد لذاتها، وإنما تُسْتَهْدَف من أجل غرضٍ آخَر مغاير لها وهو: (رفاهية الإنسان). أما «الحضارة» فترتبط بالقيم الإنسانية الكامنة، التى هى غايات مقصودة لذاتها، كما يتفق هنا كانط فى أن الحضارة هى «الأخلاق».
وبالنسبة للمعرفة التى أتصور أنها الوعاء الناقل للحضارة وصولاً إلى المدنية… حيث اجتهد الفلاسفة فى تعريف المعرفة بدءًا من أفلاطون الذى يقول بأن المعرفة هي: «… الإيمان الحقيقى المبرر»، إلا أنه لا اتفاق واضح بين عموم المفكرين والفلاسفة على تفنيد مفهوم المعرفة، لكننى أميل إلى ما فسره نحو ذلك مفكرنا الأعظم زكى نجيب محمود: «… نظرية المعرفة عند الفيلسوف هى رأيه فى تفسير المعرفة أيًّا ما كانت الحقيقة المعروفة».
لذا أذهب مع القول بأن الحضارة بمثابة خلق جديد يولد وينمو ويمر بمراحل التطور حتى يتلاشى ويفني، وتتوارث الأجيال التالية على ذات الأرض روح تلك الحضارة، من بينها اتساقها الأخلاقى وأطر مبادئها وسلم قيمها، فى حين تنقل المعارف أساليب التطور المدنى من حضارة إلى أخرى سواء أكانت متعاقبة فى ذات المكان أم فى آخر بعيدًا كان أم قريبًا.
من هنا يتضح أن الثقافة أعمق فى مفهومها من مفهوم (الحضارة) و(المدنية) و(المعرفة)، بل إنها تفوق فى صفاتها تلك المفردات التى هى من الممكن أن تكون بعضًا من عناصرها.
وهذا الأمر يدعونا إلى البحث فى ترادفات تالية، وهي: (الرفاهية) و(التقدم) و(الحداثة) و(الأصالة) و(التراث) و(المعاصرة) و(التنوير) و(النسبية) و(العقلانية)… وغيرها الكثير مما يشتبك اختلافًا واتفاقًا مع مفهوم (الثقافة).