تنظر غالبية الدول للثقافة وممارساتها باعتبارها من سبل الترفيه وطرق التسلية، أو بمعنى أدق كونها من آليات ملء الفراغ ليس إلا، بل وخصصت تلك الدول لمؤسسات ملء الفراغ مقدرات هائلة ما بين المالية الفلكية مروراً بالطاقات البشرية الكثيفة والمتخصصة فى الإلهاء، وغير ذلك الكثير والعديد على ذات الدرب، انتهاءً بالإمكانات التى لا حد أو سقف لها، وكل هذا الإنفاق لا لهدف غير الترفيه والإلهاء، لكن الدول ذات العمق التاريخى وصاحبة التفرد الحضارى ومالكة الثراء الثقافى لا تنظر للثقافة من هذا المفهوم شديد الضيق، بل هى ذاتها الدول التى تصنع من ثقفاتها صياغات عدة منها ما هو ذا أثر اقتصادي، وآخر له بعد تنموي، وثالث يستهدف بالثقافة الارتقاء بالسلوك العام كما أوصى المثقف الثائر الايطالى انتونى جرامتشى (1891-1937)، ورابع يدعم صانع القرار السياسى وفى ذلك تحدث الفيلسوف الكندى مارشال ماكلوهان (1911-1980)، وغيرهم يستهدف الإنسان وتحضره وتطوره وارتقاءه، إلى ثقافة تسعى لتكون عنصرا من عناصر قوى الدولة الشاملة فى السلم والحرب لها ذات الأهمية الإيجابية والمؤثرة ولمارشال ماكلوهان كتاب فى ذات الشأن (الحرب والسلام فى القرية العالمية 1968)، ودور آخر للثقافة بعيد المدى قد يكون معنياً باحتلال العقول بديلا عن السلاح التقليدى كما سطر فى ذلك عالم الاجتماع والمنظر السياسى هربرت تشيلر (1919-2000)، وللثقافة أهداف عدة منها وهو الأهم على الإطلاق هو تحقيق الأمن الثقافى بمفهومه الأوسع تأثيراً، وربما كانت التحديات الاقتصادية هى إحدى العثرات فى طريق تحقيق الأمن الثقافى عند بعض الدول، إنما عند تلك الدول التى اكتسبت من حصونها الحضارية دروعا تحول دون سقوطها، بل أيضا تمكنها تلك الحضارة الرصينة والمتأصلة فى شعبها من تجاوز عثرات المعوقات الاقتصادية، ولنكمل الحديث عن المثل الذى يُعد دراسة حالة بعينها الآن وهو (معرض القاهرة الدولى للكتاب الدورة 55) هو بمثابة نجاح حقيقى لأدوار الثقافة فى تحقيق الأمن الثقافى رغم التحدى الاقتصادي، فمع ارتفاع أسعار الخامات من ورق وأحبار وزنكات وقطع غيار كمستلزمات الصيانة لماكينات الطباعة، وتلك المكونات الواجب توافرها فى صناعة الكتاب، وبالتالى توفير الثقافة لأول مصادر المعرفة وأقدمها على الإطلاق وهو (الكتاب) لا لملء فراغ الوقت بل لملء العقل الجمعى بصنوف المعارف، وليس بهدف الإلهاء بل بهدف الإثراء، وأمام تعاظم تلك الحزمة من الأهداف والتى تتسق واستراتيجية الدولة المصرية فى إعادة بناء الوعى الجمعى وتحصين الفكر العام، من منطلق اهتمام الجمهورية الجديدة بالإنسان أولا(!) لذا كان التحدى الأكبر هو إتاحة الدولة للكتاب رغم الأزمة الاقتصادية، وخلال المعرض دعمت الجمهورية الجديدة صناعة الكتاب ليكون متاحا للجمهور على اختلافه تلبية لاحتياجاته المعرفية المختلفة، ولأن هذا هدف قومى تسعى الجمهورية الجديدة فى سبيله بات الكتاب مدعوما فى معرض القاهرة الدولى للكتاب مما شجع عموم المصريين على اقتناء الكتاب بأريحية مالية تعاظمت حتى وصل حجم المبيعات من الكتب النصف مليون كتاب خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى امتد على مدار ثلاثة عشر يوما– فقط– ويُعد هذا الرقم الموسوعى فى اقتناء الكتاب بين الاسر المصرية لهو الدليل الدامغ على تخطى الجمهورية الجديدة لتحديات اقتصادية كان من شأنها أن تحول بين المصريين والمعرفة، لكنها الدولة التى انتصرت لإرادة المصريين ولمطالبهم، هى أيضا التى تنتصر للمواطن الذى من حقه إتاحة المعرفة، وكذلك انتصرت للمعرفة التى هى من دعائم الدولة العصرية المتحضرة.
لم يكن للأمن الثقافى انتصار على التحديات الاقتصادية فى صناعة الكتاب وبالتالى اتاحته، وفقط، بل تجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث حقق الأمن الثقافى رواجاً سياحياً خارجياً وداخلياً، فعلى المستوى الداخلى كان الانتقال من محافظات الجمهورية إلى القاهرة وصولا لمعرض الكتاب الذى شهد إقبالاً كثيفا من شتى محافظات مصر، وعلى الصعيد الدولى الخارجى فقد استقبلت مصر وفودا من مثقفى العالم العربى والغربى وأيضا مسئولو دور ومؤسسات النشر المعنية من أكثر من (70) دولة مما أحدث إسهاما حقيقياً لدعم الثقافة بشكل غير مباشر للسياحة واستقطاب الرموز الفكرية والتى تدور ماكينات الإعلام فى أفلاكها بلغات العالم أجمع وهى الأجدر فى التعبير لدولها وعند شعوبها عن المزارات السياحية فى مصر، فضلا عن العوائد المادية العالية من مبيعات كتب تلك الدور ومؤسسات النشر بشكل مباشر وبآخر غير مباشر من خلال الدعاية عن مؤلفات هذه الدور العنية بالنشر فى أكثر معارض العالم حضوراً جماهيريا مصرياً وعربياً وآسيوياً وأفريقياً وغربياً، والذى تجاوز فى تقرير وزارة الثقافة المعلن أكثر من خمسة ملايين زائرا للمعرض.
أيضا تحقق من الحضور المكثف للجمهور رواج لمبيعات دور النشر المتوسطة والناشئة التى سمحت لها وزارة الثقافة بالاشتراك بالمعرض رغم عدم توافر شروط مشاركتها كاستثناء يعود بالنفع المباشر مادياً لتلك الدور وأيضا بتخفيض أسعار الكتاب ليكون فى متناول الأسرة المصرية فى ظل تحقيق منافسة شفافة بين دور النشر لصالح المواطن وذلك باتاحة مشاركة أكثر من (5250) عارضاً، و(1200) دار نشر.
حققت الثقافة بذلك هدفا أسمى وأعظم وهو تفعيل آليات الأمن الثقافى حماية للهوية الوطنية من جانب والترويج بغير هجوم– عدائي– للثقافة المصرية بين شعوب العالم لتكون ثقافة فاعلة غير مفعول بها ، ثقافة مُصدّرة غير مستوردة، وربما هكذا يتحقق الأمن الثقافى رغم التحدى الاقتصادي، وفى القادم ان شاء الله حديث عن الأمن الثقافى فى أبعاد أخري.