الأمن الثقافى تماما كما الأمن الغذائى أو الأمن الاجتماعي، الأول يحمى المواطن من عوز الاحتياج وقصور تلبية الاحتياجات، والثانى يحفظ بناء المجتمع وتماسك كيانه، وكذلك ما تضمنه القوات المسلحة من تأمين لمقدرات الوطن وسلامة واستقرار حاضره ومستقبله وتأمين حدوده برا وبحرا وجوا، وكذلك الأمن الشرطى الذى يضمن سبل أمان واستقرار الوطن داخليا، وهكذا … وتتحدد المهمة الأعظم من الأمن الثقافى لتشمل بناء فكر جمعى وصقل وعى ثقافى يصون الهوية الوطنية ويحدد ملمح الشخصية الوطنية.
ومن هنا نجد أهمية لتوضيح دلالة «الأمن الثقافي» الذى يتكون اصطلاحا من مفردتين تعنيان بداية دلالات «الأمن» وكذا دلالات « الثقافة» ونجد مفردة «الأمن» لغويا كما فى المعاجم العربية كالمنجد: أنَّ الأمن من أمن أمناً– وأماناً أى اطمأن فهو آمِن وأمين، والأمان: الطمأنينة والحماية وسكون القلب, وفى معجم المصباح المنير لا يختلف معنى «الأمن» فيأتى متسقا مع سابقه، فيعنى «الأمن»: آمنته عليه بالكسر وأتمنته عليه فهو أمين، وأمن البلد اطمأن به أهله فهو آمن وأمين، وآمنت بالله إيماناً أسلمت له، وآمنت الأسير بالمدّ أى أعطيته الأمان، ويقرب المعنى أكثر فى معجم مختار الصحاح: «أَمِن» من باب فَهِم وسَلِم، و»أمَانا» وأَمَنه بفتحتين فهو «آَمِن»، والأمن ضد الخوف، واتفقت قواميس اللغات من العربية إلى غيرها عن معنى «الأمن»: هو حالة من الشعور بالأمن والحماية والأمان والاستقرار والاطمئنان، ويتقارب معنى «الأمن» اللغوى مع معناه الاصطلاحى من حيث اجراءات وبروتوكولات تصون حرية الفرد والمجتمع وتضمن بقاءه واستقراره.
ونذهب للشق الثانى من الاصطلاح وهى مفردة «الثقافة» وكما عُرّفت فى معجم لسان العرب «ثقف» الشئ يعنى حذقه، ورجلٌ ثقف أى صار حاذقاً فطناً، وذات المعنى فى معجم المنجد أنَّ الثقافة: من ثقِفَ وثقُف ثقفاً وثقافة أى صار حاذقاً، ويتطابق المعنى لغويا عن « الثقافة» فى معجم الوسيط «ثقف الشئ» أى أقام المعوج منه وسواه، و»ثُقِفَ» الإنسان أى أدبه علمه وهذبه، والثقافة هى العلوم والمعارف والفنون التى يطلب العلم بها والحذِقُ فيها، والثقاف هى الخشبة التى تُسوَّى الرماح بها، فعند قول جملة «تثقيف الرماح» يعنى تسوية الرمح بآلة الثقاف، ومن جهة أخرى تُعرَّف الثقافة على أنّها الفطنة، فعند القول «ثقف الرجل ثقافة» يعنى أنّه صار رجلاً حاذقاً وذا فطنة، وتعنى كلمة ثقافة، كل ما يضيء العقل، ويهذب الذوق، وينمى موهبتى النقد والتذوق.
وتلك طائفة من معانى «الثقافة» لغويا أما اصطلاحا فالثقافة عند السير إدوارد بيرنت تايلور 1832 – 1917 وهو عالم أنثروبولوجيا إنجليزى ومؤسس لعلم الأنثروبولوجيا الثقافية ومن أهم مؤلفاته «الثقافة البدائية» صدر 1871 ويُعرف الثقافة : هى نظام متكامل يشتمل على كلٍّ من المعرفة، والفن، والقانون، والعادات والتقاليد، والأخلاق، وغيرها من الأمور التى يكتسبها الإنسان بوصفه أحد أفراد المجتمع.
ويُعرفها عالم الإنسانيات اللغوى الأشهر ـ إدوارد سابير «أمريكى 1884 – 1939» من خلال وضع مفهوم شامل يضم ثلاثة تعريفات تُكمّل بعضها البعض، وهى : أيّ صفة يتّصف بها الإنسان يكون مصدرها الإرث الاجتماعي. وهى : مجموعة من الأفكار والمعلومات والخبرات التى تنتشر فى مجتمع ما بسبب التأييد الاجتماعى لها، ويكون أساسها التراث، وأيضا هى : مجموعة من الأفكار التى تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التى يتميّز بها شعب ما، وتُكسبه مكانة خاصة فى العالم.
وأرى أن الأدبيات تعج وتفيض بتعريفات متشابهة لمفردة «الثقافة» وجميعها تحوم وتقترب حول معنى واحد وهو مدى الثراء المعرفى من شتى روافد المعارف المقدسة، والإنسانية الإبداعية والعلمية والفكرية، والمتفق عليها من المجمع الشعبي، والمتراكمة فى أطر تراثية وأنساق موروثة متراكمة، والتى تشكل أنماط التفكير وطرائق السلوكيات الحياتية لتصيغ فى النهاية الهوية الوطنية للشعوب وتميزها عن بعضها البعض.
وهنا يستوجب الأمر الحديث عن ماهية الأمن الثقافي، وخصائصه وسماته وآلياته وأدواته وأنماطه ودائرة الاتصال التى تشكلها عناصره منها؛ صناع الثقافة وروادها والقائمين عليها وحراسها وجمهورها المتناول لتلك الثقافة وهو أيضا صاحب فعل رجع الصدى الذى يطور من ثقافته.