لا قلب يخلو من الأمنيات والأحلام والرغبات والطموحات، فهذه طبيعة إنسانية تتطلع دائمًا للأفضل وتطلب المزيد فى الحياة الدنيا، فَالمَرِيضُ يَتَمَنَّى الصِّحَّةَ، وَالفَقِيرُ يَتَمَنَّى الغِنَي، وَالطَّالِبُ يَطْمَحُ لِلشَّهَادَةِ وَالوَظِيفَةِ بَعْدَهَا.. هَذَا يَتَطَلَّعُ لِلْمَسْكَنِ الوَاسِعِ، وَذَاكَ يُمَنِّى نَفْسَهُ بِالمَرْكَبِ الفَاخِرِ، وَآخَرُ تَمْتَدُّ عَيْنُهُ لِلْمَنْصِبِ العَالِي.. وهى أمنيات تتعلق بسعة الرزق، أو الزواج أو الإنجاب، ولا يكف الإنسان عن التمني.. وتتفاوت أمنياته بين ممكن مستطاع، وبعيد يفوق قدراته.. لكنها فى النهاية أمنيات قد تتحقق بالسعى والاجتهاد أو الإلحاح فى الدعاء أملاً فى الفوز بالاستجابة من الله الذى يقول للشيء «كن فيكون».
ومهما تكن صعوبات تحقق الأمنيات فى الدنيا؛ فإن ثمة أمورًا لو فعلها الإنسان بصدق وإخلاص تصبح ممكنة، كأن يكثر صاحبها من الجهد والأخذ بالأسباب مع الإلحاح بالدعاء والاستغفار وكثرة التقرب إلى الله بالنوافل وصالح الأعمال.. يقول المناوى رحمه الله: «إذا تمنى أحدكم خيرًا من خير الدارين فلْيكثر الأمانى فإنما يسأل ربه الذى رباه وأنعم عليه وأحسن إليه فليعظم الرغبة ويوسع المسألة؛ فينبغى للسائل الإكثار ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحّاء ليلًا ونهارًا ولا يفنى عطاؤه عز وجل».
فإذا تحقق للإنسان أمنياته وهى ممكنة فى الدنيا، بفضل ما يجود به الله لعباده من نفحات فى أوقات معينة ومن المستحب التعرض لها لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «ألا إن لربكم فى أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها».
أما لماذا يتمنى الإنسان.. فالجواب: أنه بِالْأَمَانِى تَتَسَلَّى النُّفُوسُ، وَتَتَحَفَّزُ الهِمَمُ، وَيُبْنَى التَّفَاؤُلُ، وَيُصْنَعُ الأَمَلُ.
يقول الشاعر:
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بِالْآمَالِ أَرْقُبُهَا ❊ مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الأَمَلِ
والسؤال: هل كل الأمنيات عند الله سواءٌ..؟!
والجواب بالقطع لا.. فإِنْ تَمَنَّى العَبْدُ الخَيْرَ وَالمَعْرُوفَ، فَهِيَ حَسَنَاتٌ صَالِحَاتٌ، وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْهَا جَوَارِحُهُ، وَإِنْ تَمَنَّى الإِثْمَ وَالسُّوءَ فَهِيَ أَوْزَارٌ فِى صَحِيفَتِهِ وَشَقَاءٌ لَمْ يَعْمَلْهُ.
والدليل عَلَى هَذَا وَذَاكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: «إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِى مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِى مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ» أَيْ: فِى تَضْيِيعِ مَالِهِ وَصَرْفِهِ فِى وُجُوهِ الحَرَامِ، قَالَ: «فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ».. هذه أمنيات الدنيا الممكنة.. فهل سألت نفسك ما الأمنيات المستحيلة التى فات أوانها ولا تستطيع إليها سبيلاً..؟!
الأمانى المستحيلة هى ما يتمناه المرء إذا حضره الموت.. فأمنيات الموتى يستحيل تحقيقها..!!
فهل جربت مرة أن تضع نفسك مكان «ميت» وضعوه للتو فى قبره، وانفض الأهل من حوله، وهو يسمع قرع نعالهم ينصرفون كل إلى حال سبيله بينما يستقبل «الميت» حياة أخرى غير التى كان يحياها، حياة لا يدركها إلا هو، ولو علم الأحياء حقيقتها ما عادوا إلى سيرتهم الأولى من غفلة وتسويف وظلم وتقصير.. حياة أخرى يحياها الميت فى قبره وحده لا صاحب له إلا عمله وما قدمت يداه فى الدنيا، حياة أخرى يلقى فيها حسابه ويعرف منزلته عند ربه من أول لحظة فى قبره.. فإن كان محسنًا فى الدنيا لتمنى لو أنه زاد فى إحسانه وحسناته ورصيده وزاده الحقيقي.. وأما إن كان مسيئًا فيتمنى لو أن بينه وبين القيامة أمدًا بعيداً.. يقول الله تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» آل عمران: 30».
عجبًا لأمر الإنسان؛ فرغم أن أرض الله واسعة أمامه؛ لكنه يصر على حشر نفسه فى زاوية معينة يعلم مسبقاً عاقبتها ومآلها وخسرانها.. لكنه يماطل ويسوّف وتغره الأماني، فيظلم هذا، ويأكل مال هذا، ويؤذى ذاك بلسانه أو بيده، ولا يكف عن ممارسة شروره وآثامه حتى إذا حضره الموت، وانتهى أجله قال قولته المشهورة «رَبِّ ارجِعُونِ لَعَلِّى أَعمَلُ صَالِحا فِيمَا تَرَكتُ».. وتلك أولى الأمنيات المستحيلة؛ ذلك أنه «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» (الأعراف: 34).. وحين يطلب الإنسان الرجوع إلى الدنيا يأتيه الرد من فوره: «كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرزَخٌ إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ «(المؤمنون: 100).. ثم تتوالى الأمنيات المستحيلة؛ أمنيات الموتى الذين خرجوا من الدنيا صفر اليدين بلا عمل صالح يشفع لهم عند ربهم ويجعلهم من أهل رحمته. .ساعتها يقول الإنسان: «يا ليتنى قدَّمت لحياتي»، أو يقول: «يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول»، أو يقول: «يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً».. أما الأخلاء فيقول الله تعالى فيهم: «الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين».. أو يقول الإنسان: «يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا».. فإذا تحقق الإنسان من سوء مثواه ومصيره فإنه يقول: «ليتنى لم أوت كتابيه».. أما الكافر فيقول «يا ليتنى كنت ترابًا».. هذه أمنيات صارت مستحيلة بعد الموت لكنها كانت ممكنة ممكنة ومستطاعة فى الدنيا، بل مندوبة ومستحبة.. فماذا يمنعك أن تبادر لعمل صالح يشفع لك عند الله ويجعلك أهلاً لرحمته ورضوانه؛ فالله تعالى يقول «فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا» (الكهف: 110) والعمل هنا إما أن تأمل ثوابه، أو ترجو به رؤية وجه الله الكريم يوم القيامة، أو تفعله خشية عقابه.. فاعمل وتقرب واجتهد واصبر على ما أصابك وتمن على الله ما تشاء وأكثر من الدعاء، فأمر الله بين الكاف والنون، والله يفرح إذا سأله العبد ولا يرد سائلاً قصده فى الليل أو النهار.. وهو سبحانه قد طلب منا الدعاء فقال تعالي: «وقال ربكم ادعونى أستجب لكم».. فادعه وأنت موقن بالإجابة وأحسن الظن بالله تجد خيرًا فى كل أمورك.. ولا تدخر جهدًا فى التمنى قبل أن يصبح هذا التمنى فى عداد المستحيلات.