لم يكن عام 2024 الذى يلملم اوراقه ليرحل بعد أيام، افضل على العالم ومنطقة الشرق الأوسط من سابقه، بل كان كما قال التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، من أكثر الأعوام قسوة فى التاريخ الحديث بالنسبة للمدنيين العالقين فى النزاعات، وقد يكون عام 2025 أسوأ من ذلك إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذه النزاعات.
خلال السنوات الخمس الماضية، والعالم يشهد أحداثًا جسامًا وصراعات ملتهبة ومتتالية، وأصبحت الشعوب وكأنها تعيش على سطح بركان يلقى بحممه فى وجه الجميع، فمع بداية 2020 انتشر وباء كورونا الذى هدد وتوعد ونشر الرعب، وخلق حالة من الارتباك والذعر فى كل بقاع الأرض، واعلنت حالات الطوارئ واغلقت الحدود وانكفأت كل دولة على نفسها تحشد طاقاتها وتستنفر اطقمها الطبية وتوجه مواردها لنظامها الصحي.
قبل أن يلتقط العالم أنفاسه وتستقر أوضاعه وتنجح جهود التعامل والتعايش مع الفيروس، إلا وتشتعل الحرب الروسية الأوكرانية، وهما الدولتان اللتان يمدان العالم بنسبة كبيرة من الطاقة والمحاصيل الزراعية والمواد الخام، فترتبك الاسواق، وتتعثر حركة الامدادات، وتتغير أساليب المعاملات المالية، وتعلو المطالب بالدعوة لنظام مالى عالمى جديد.
ولم تكتف منطقة الشرق الأوسط بنصيبها من المصاعب والتحديات العالمية، بل أضافت إلى ماهى فيه هموماً ومشاكل وتحديات أخري، فاشتعل الصراع بين الاشقاء فى السودان، ثم كان طوفان الأقصي، والغزو الاسرائيلى لغزة وتدمير بنيتها التحتية، ويمتد الاعتداء الى لبنان، والان يسقط نظام بشار الاسد، وتسود حالة قلق حول المستقبل الغامض لسوريا الحبيبة، وتثور المخاوف من اطماع الطامعين فى خيرات هذا البلد العتيق.
ولأن السياسة والاقتصاد عنصران لا ينفصلان، ويؤثر كل منهما على الآخر، كان طبيعيًا فى ظل كل هذه الاحداث الملتهبة والصراعات المستمرة والنزاعات التى لا تتوقف، أن تتأثر اقتصاديات دول العالم كله بصفة عامة، ومنطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، فحدثت موجة كبيرة من التضخم وارتفعت أسعار جميع السلع الأساسية، وزادت تكلفة الشحن والنقل واستيراد المواد الخام، وتراجعت حركة الاستثمار المباشر، وأمسكت رؤوس الموال عن التوجه أو التواجد فى مناطق الصراع، فى وسط كل هذه الاحداث والصراعات الملتهبة والتهديدات المتواصلة تشق مصر طريقا طويلا نحو التنمية، بدأت خطواته الأولى فى 2014.
وفى ظل كل هذه التحديات الضخمة، كان طبيعيًا أن يتأثر الاقتصاد المصري، وأن تتراجع معدلات النمو ، وأن تهتز بعض مؤشراته، وان تحتاج الخطط والبرامج المستقبلية الى إعادة نظر من حين لآخر.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل وقفت الدولة مكتوفة الأيدى أمام تلك التحديات؟ وهل قصرت الدولة فى اتخاذ ما يلزم لاستمرار عجلة التنمية فى الدوارن؟ وهل استطاعت الدولة أن توفر للمواطنين الحماية الكاملة من الاثار الاقتصادية السلبية لكل هذه الاحداث؟
الإجابة العادلة والمنطقية أن الدولة بذلت كل الجهد وحشدت كل الإمكانيات للحفاظ على حالة الاستقرار الاقتصادي، وعلى المكتسبات التى تحققت من تطبيق المرحلة الأولى لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، واتخذت الإجراءات المناسبة لمنح الاقتصاد المصرى الصلابة والقوة اللازمة للصمود فى وجه التحديات العالمية والتقلبات الخارجية، واستمرت عجلة التنمية فى الدوران ،مابين مشروعات هنا وأخرى هناك.
مشروعات فى كل المجالات : الصحة والتعليم والطرق والنقل والإسكان والزراعة والصناعة، وامتدت هذه المشروعات فى كل بقاع الدولة، ولم تقتصر على العاصمة والمحافظات الرئيسية كما كان فى عهود سابقة، بل امتدت يد العمران الى مناطق لأول مرة منذ عقود أو قرون طويلة، كما امتدت مظلة الحماية الاجتماعية التى أطلقتها الدولة كل الفئات التى تحتاج للدعم .
مشروعات وفرت الآلاف من فرص العمل، واستوعبت مئات الالاف من الخريجين، وتم فتح المجال أمام القطاع الخاص، ليس فقط كشريك فى عمليات التنمية، بل ليقود مسيرة الاقتصاد وينطلق نحو معدلات نمو أكثر ارتفاعا، ونجحت الدولة فى تكوين احتياطى ضخم من السلع الأساسية، فلم يشعر المواطن بنقص كبير فى أى سلعة إلا فيما ندر نتيجة لظروف أدت الى تراجع فى المعروض من النقد الأجنبى بعد إنخفاض إيرادات قناة السويس بسبب احداث البحر الأحمر وتراجع تحويلات المصريين العاملين بالخارج، واستكمالا لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وقعت الحكومة مع صندوق النقد الدولي، اتفاقا يهدف الى تطبيق برنامج طموح وجاد لاستكمال إجراءات الإصلاح، ويهدف فى المقام الأول إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وخفض عجز الموازنة العامة، والسيطرة على معدلات التضخم، وخفض الدين العام، وترشيد الإنفاق الحكومي، وتحسين وضع المالية العامة، وتوفير أكبر قدر من فرص العمل بفتح المجال أمام الاستثمارات الخاصة ومشاركة القطاع الخاص ليكون هو القائد الحقيقى للاقتصاد المصري، بما يحقق فى النهاية معدلات نمو مرتفعة .
وتم اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتشجيع الاستثمار المباشر المحلى والأجنبي، كان أبرزها توفير الأراضى للمستثمرين، وتسهيل إجراءات الحصول على تراخيص إقامة المشروعات الجديدة أو التوسع فى المشروعات القائمة، وتم إطلاق الرخصة الذهبية لأول مرة، وتم البحث عن أفكار مبتكرة لجذب كبار المستثمرين، فكانت صفقة رأس الحكمة التى نجحت فى تحقيق الاستغلال الأمثل لثروات مصرية ظلت لقرون طويلة بعيدة مهجورة تبحث عن العقول القادرة على استغلالها، وساهمت تلك الصفقة بشكل مباشر فى حل أزمة سوق الصرف ومشكلة نقص النقد الأجنبى .
أيضا تم إطلاق حزمة أولى من التسهيلات والحوافز الضريبية أخذت فى اعتبارها تشجيع وتحفيز المشروعات الصغيرة التى تمثل العمود الفقرى للاقتصاد على الانضمام للاقتصاد الرسمي، كما تم تطوير ورقمنة المنظومة الضريبية، مما كان له أثره البالغ فى تسهيل تعامل الممولين والمستثمرين مع الإدارة الضريبية، وبالتالى تحقيق طفرة هائلة فى الإيرادات الضريبية التى تشكل العنصر الرئيسى فى إيرادات الموازنة العامة للدولة.
أيضا أطلقت الدولة مجموعة من المبادرات لتشجيع التصدير، وأعلنت عن برامج جديدة لدعم المصدرين، وانشاء الية لخصم المستحقات والالتزامات، بما يوفر السيولة المالية لزيادة الإنتاج والتوجه بالمنتج المصرى نحو الأسواق العالمية، وبلغت قيمة المساندة التصديرية منذ عام 2019 وحتى الان مايقرب من 65 مليار جنيه استفادت منها أكثر من 3000 شركة .
وفى ظل ذلك كله لم تغفل الحكومة عن مد شبكة حماية اجتماعية لدعم محدودى الدخل وحماية الفقراء من الاثار المتوقعة لإجراءات الإصلاح، فأعادت ترتيب الأولويات فى الموازنة العامة، حتى يكون الإنفاق العام أكثر مراعاة للبعد الاجتماعى من أجل احتواء أثر الإصلاحات الاقتصادية، فتمت زيادة حجم الإنفاق على التعليم بنسبة 25٪، والقطاع الصحى بنسبة 24٪ وقطاع الحماية الاجتماعية بنسبة 20٪، وأطلقت الدولة حزما متتالية لتحسين أجور ومرتبات العاملين ، وزيادة المعاشات، وإضافة فئات أخرى وأعداد جديدة للمشاركين فى برنامج تكافل وكرامة، كما أطلقت مجموعة من المبادرات الصحية، وفتحت منافذ خاصة لبيع السلع الأساسية بأسعار مناسبة، وزادت مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية فى الموازنة الحالية بأكثر من الضعف وبلغت 550 مليار جنيه مقارنة بعام 2020- 2021، بزيادة تجاوز دعم المواد البترولية 165 مليار جنيه، وارتفع دعم السلع التموينية إلى أكثر من 133 مليار جنيه وتخطت معاشات «تكافل وكرامة» 35 مليار جنيه، وسددت الحكومة مستحقات صندوق التـــأمينات الاجتمـــاعية والمعـــاشات بنحو 185 مليار جنيه ليصل إجمالى ما دفعته حتى نهاية يونيو الماضى نحو 913.2 مليار جنيه .
كل هذه الإجراءات التى ذكرناها وغيرها من التى لم تسع المساحة لذكرها، كانت كفيلة بأن يختتم الاقتصاد المصرى عام 2024 برسالة طمأنة من صندوق النقد الدولي، يعلن فيها موافقته على المراجعة الرابعة بشأن الاتفاق المبرم بين الطرفين فى مارس الماضى على قرض بقيمة 8 مليارات دولار، ويتيح للحكومة المصرية صرف شريحة جديدة من القرض بقيمة 1.2 مليار دولار.
الرسالة جاءت على لسان رئيسة بعثة الصندوق فى مصر إيفانا فلادكوفا هولار، قالت فيها أن «السلطات المصرية واصلت تنفيذ سياسات رئيسية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادى الكلي، على الرغم من التوترات الإقليمية المستمرة التى تتسبب فى انخفاض حاد فى عائدات قناة السويس، وأنه فى ضوء الظروف الخارجية الصعبة، فضلاً عن البيئة الاقتصادية المحلية الصعبة، طلبت مصر مراجعة التزاماتها المالية متوسطة الأجل. وفى هذا الصدد، من المتوقع أن يصل فائض الميزان الأولى إلى 4٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى السنة المالية المقبلة «2025-2026»، وهو ما يعتبر أقل بنسبة 0.5٪ من الناتج المحلى الإجمالى من التزامات البرنامج السابقة، على أن يرتفع الفائض إلى 5٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى السنة المالية «2026-2027» بما يتماشى مع الالتزامات السابقة» وهذا التعديل قصير الأجل يسعى إلى ضمان أن يوفر ضبط الأوضاع المالية بعض المساحة لزيادة البرامج الاجتماعية الحاسمة لدعم الفئات الضعيفة والطبقة المتوسطة مع ضمان استدامة الدين».
هذه الرسالة تؤكد «كما قلنا» أنه رغم كل التحديات الضخمة التى تحيط بمصر من كل جانب، فإن االحكومة لم تقف مكتوفة الأيدي، ولم توقف عجلة التنمية، ولم تتراجع القيادة السياسية عن حلمها ببناء دولة عصرية حديثة، ولم تدخر جهدًا لحماية مواطنيها ولا مقدرات وثروات الوطن، ولم تغفل عينها عن تحقيق الأمن والأمان والاستقرار، والتمسك بخطط بناء الانسان والحفاظ على قيم وثوابت المجتمع، وتحسين معيشة المواطنين، وهى تؤكد أيضًا أن الاقتصاد المصرى يستقبل عام 2025 أكثر صلابة وقوة فى مواجهة أى تحديات.
وقد تكون القيادة السياسية وأجهزة الدولة على علم كامل وفى حالة يقظة تامة لحجم التحديات الخارجية والداخلية، والمؤامرات التى تحيط بمصر وبدول المنطقة، لكن وعى المواطن بهذه التحديات وبحجم ماتبذله الدولة من جهد، أهم وأكثر إلحاحًا، ودوره فى التصدى لحملات التشكيك، ولما يتم الترويج له من شائعات ومؤامرات ومحاولات لزعزعة الاستقرار يجب أن يسبق دور الحكومة، وأن يثبت أن مثل هذه المحاولات لن تنل من عزيمته على استكمال مسيرة البناء، ولا من ثقته فى قيادته التى تصل الليل بالنهار من أجل الحفاظ على استقرار الوطن وسلامة أراضيه .