يشكل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس واعتمادها سياسات تجارية حمائية تحديًا جوهريًا للتصدى لتغير المناخ على الصعيد العالمى. وباعتبارها واحدة من أكبر الدول المصدرة للانبعاثات الكربونية فى العالم، فإن للولايات المتحدة دورًا محوريًا فى الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة. وإن تراجعها عن التعاون الدولى لا يقتصر على تقويض التحول فى النظام العالمى للطاقة، بل يهدد أيضًا النظام التجارى الدولى القائم على القواعد والذى ساهم فى تسهيل التقدم المشترك على مدار عقود.
إن عواقب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق تتعدى حدودها الوطنية بشكل كبير. فقد تسببت أجندة «أمريكا أولاً»، المعتمدة على فرض الرسوم الجمركية واضطرابات التجارة، فى عرقلة تبادل التقنيات الخضراء والاستثمارات فى الطاقة المتجددة. إذ تعد أنظمة التجارة المفتوحة أساسية لخفض التكاليف، ونقل الابتكارات، وبناء حلول متكاملة لمواجهة تغير المناخ. ومن دون هذه الآليات، يصبح المسار نحو تحقيق الأهداف العالمية للانبعاثات أكثر صعوبة وغموضًا.
وعلى الصعيد الداخلى، قد أدى هذا التراجع إلى ترك الولايات والمصالح التجارية والمجتمعات فى مواجهة التأثيرات المتصاعدة لتغير المناخ. فمن حرائق الغابات المدمرة إلى الفيضانات الكارثية، لا يمكن إنكار المؤشرات على احترار كوكب الأرض. ومع ذلك، فإن غياب القيادة الأمريكية قد أحدث فراغًا ينبغى على جهات أخرى ملؤه الآن. إن هذا النهج المتباين يهدد بتأخير التقدم المطلوب لضمان حماية الأجيال القادمة.
برغم هذه التحديات، هناك أسباب للتفاؤل. فقد أظهرت دول مثل الصين ودول أوروبية أن العمل الجرىء والتعاونى يمكن أن يسهم فى تحقيق خفض كبير فى انبعاثات الكربون مع تعزيز النمو الاقتصادى. لقد أسهمت استثمارات هذه الدول فى تقنيات الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وكذلك فى تقليص التكاليف بشكل ملحوظ وتسريع الانتقال نحو مستقبل منخفض الكربون. هذه الجهود تعد نموذجًا يحتذى به من قبل مناطق أخرى.
كما يمثل الاقتراح بإنشاء تكتل تجارى أخضر ضمن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) مسارًا واعدًا لدعم أجندة المناخ فى منطقة شرق آسيا. فمن خلال خفض تكاليف السلع والخدمات المستدامة وتعزيز نقل التكنولوجيا، يمكن لهذه المبادرات أن تحفز النمو الاقتصادى مع التصدى للتحديات البيئية. كما أن إنشاء أطر مالية مشتركة للاستثمار الأخضر يعزز من أهمية التعاون لتحقيق نتائج مستدامة.
هنا، أود أن أدعو المجتمع الدولى لإعادة النظر فى التقرير الذى قمت بقيادة إنتاجه فى عام 1999 تحت رعاية الجمعية العربية للمحاسبين القانونيين (ASCA) بالتشاور مع الأمم المتحدة والمعايير الدولية للمحاسبة والتقارير المالية (ISAR) بعنوان «المحاسبة والتقارير المالية لتكاليف البيئة والالتزامات البيئية». يتيح هذا الإطار للأعمال التجارية الكشف بشفافية عن تأثيرها البيئى، مما يتماشى مع أهداف الاستدامة. واليوم، أصبحت هذه المبادئ أكثر أهمية من أى وقت مضى. ومن خلال دمج التكاليف البيئية فى التقارير المالية، أعتقد أننا يمكن أن نحقق مزيدًا من المساءلة ونعزز الممارسات المسئولة عبر العديد من الصناعات.
ينبغى على المجتمع الدولى الآن إعادة تشكيل النظام التجارى الدولى التقليدى ليتماشى مع الواقع الجديد الذى يشهد انخفاضًا فى مشاركة الولايات المتحدة. ويجب على الدول ذات الرؤى المشتركة تعزيز تعاون متعدد الأطراف، واستغلال الأطر القائمة للحفاظ على الأسواق مفتوحة للسلع والخدمات منخفضة الكربون. ومن خلال إعادة تقييم المبادئ التى تم تحديدها فى تقريرى لعام 1999، يمكننا تطوير أنظمة قوية لمعالجة الآثار المالية والبيئية لتغير المناخ.
وبالرغم من أن انسحاب الولايات المتحدة من التعاون الدولى يعد مصدرًا للاضطراب بشكل لا يمكن إنكاره، إلا أنه يبرز أيضًا مرونة الأجندة العالمية للمناخ. فمن خلال تعزيز التحالفات، وتجديد الأطر، والالتزام الثابت بالمساءلة البيئية، يمكننا التكيف مع هذه المرحلة الجديدة التى نواجهها، حيث اختار «القائد العالمى الأمريكى» اتباع مسار منفصل، تاركًا بقية العالم لتحمل عبء العمل الجماعى لمكافحة تغير المناخ.