زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون جاءت فى موعدها وحققت أهدافها فى وقت تتأزم فيه العلاقات الدولية وتتشابك المصالح الإقليمية ويتعرض الاقتصاد العالمى لزلزال رسوم الجمارك «الترابية» وتشتعل المنطقة بالحرب فى غزة والسودان وعدم الاستقرار فى سوريا واليمن بعد الهجمات الإسرائيلية المتوحشة!!
يتساءل رجل الشارع.. ماذا بعد زيارة ماكرون.. وما هى الفائدة منها؟! ستظهر قريباً نتائج الزيارة وثمارها الإيجابية سياسياً واقتصادياً وثقافياً حيث يأتى على رأس المكاسب تأييد الخطة المصرية لإعمار غزة ورفض فكرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التى تقوم على تهجير الفلسطينيين خاصة أن ماكرون يمثل التوجهات الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة ويؤيد حل الدولتين لإنهاء الصراع فى الشرق الأوسط.. وهو ما قاله الزعماء الثلاثة عبدالفتاح السيسى والملك عبدالله بن الحسين وماكرون للرئيس ترامب أثناء محادثتهم معه بينما هو كان يستقبل نتنياهو للمرة الثانية؟!
قمة الزعماء الثلاثة حذرت من دخول المنطقة فى فوضى إذا استمر العدوان الإسرائيلى الوحشى على غزة وطالبت بوقفه فوراً ورفض ضم أراضى فلسطينية وإنهاء معاناة الشعب الفلسطينى.. ثم جاءت زيارة ماكرون للعريش بصحبة الرئيس السيسى ليرى العالم معهما مأساة الجرحى والمصابين والمرضى الذين استقبلتهم مصر للعلاج فى مستشفياتها وكذلك حجم المساعدات الإغاثية والإنسانية التى تنتظر الدخول إلى غزة وتعطلها إسرائيل التى جاءت من العديد من دول العالم وإن كان أغلبها تقدمه مصر هدية لشعب غزة وللأشقاء فى فلسطين إلى جانب سعيها بمبادرة جديدة لوقف إطلاق النار فى غزة وتحملها كافة الضغوط الدولية والإقليمية للتخلى عن دورها المؤيد للشعب الفلسطينى وإقامة دولته ولولا عملية «طوفان الأقصى» لانتهت القضية الفلسطينية إلى الأبد.. بينما العالم تمسك بالصمت الرهيب على ما يحدث من إبادة للفلسطينيين لأن أمريكا أيدت العدوان!!
لا تقل المكاسب الاقتصادية عن المنتظر تحقيقه سياسياً من زيارة ماكرون فقد تم توقيع عدة اتفاقيات فى النقل والطاقة والمياه باستثمارات تصل إلى 260 مليون يورو مع التخطيط لزيادة التبادل التجارى بين مصر وفرنسا هذا العام إلى 3.5 مليار دولار بدلاً من 2.8 مليار دولار العام الماضى والوصول إلى العلاقات البينية إلى الشراكة الاستراتيجية.
كانت الجولة التى اصطحب فيها الرئيس ضيف مصر إلى الحسين وخان الخليلى والجمالية التى عاش فيها السيسى «ضربة معلم» لأن تجوله بالمنطقة وسط الجماهير أكد للعالم مدى الأمن والأمان بالبلد وهى مع زيارة ماكرون للمتحف المصرى الكبير الذى سيتم افتتاحه فى يوليو القادم بإذن الله تعتبر رسالة قوية لجذب السياحة إلى مصر .. مطلوب من المسئولين الاستفادة منها كأكبر دعاية للسياحة فى مصر المحروسة بعد أن رأى العالم ما يظهر حضارة وتاريخ أول دولة عرفتها البشرية.. وتعرفوا على التراث والمأكولات الشعبية حيث تناول ماكرون شربة العدس والكباب وشرب الشاى بالنعناع فى مقهى نجيب محفوظ!!
وتستمر الرسائل الإيجابية التى أحدثتها زيارة الرئيس الفرنسى بزيارته للجامعة الأم فى مصر «جامعة القاهرة» التى أنشئت عام 1908 وظلت طوال 117 عاماً منارة للعلم بل من قبل ذلك حيث كانت نواتها مدرسة المهندسخانة التى افتتحت عام 1820 وبعدها المدرسة الطبية عام 1827.. وكل هذا التاريخ عرفه ماكرون.. وكما انبهر بتصميم وعمارة قبة الجامعة وقاعتها التى كانت تحتضن احتفالات الثورة وخطابات رؤساء مصر وحفلات كوكب الشرق أم كلثوم.. فإنه أشاد بدور الجامعة الرائد كمؤسسة تعليمية عريقة بالمنطقة ودورها يشابه دور جامعة السوربون فى باريس عاصمة النور بالنسبة لأوروبا.. لذلك فإنه يُشرف فرنسا الشراكة مع مصر فى مجال التعليم والثقافة والسياحة.
علينا استثمار نجاح الزيارة على مختلف الأصعدة خاصة الاقتصادية والثقافية وعلينا أن نعترف بأن الذين وضعوا برنامج زيارة الرئيس ماكرون ونفذوه بحرفية جعلوها من أنجح الزيارات التى تستضيفها مصر وساهمت فى توصيل الرسائل التى تريدها الدولة إلى العالم سواء من حيث الاستقرار والتفاف الشعب حول قيادته ودعم الموقف المصرى من الحرب فى غزة.. أو من تأكيد الأمن والأمان وحسن استقبال السائحين أو بالنسبة للجوانب الاقتصادية والثقافية ولا ننسى أيضاً التعاون العسكرى وتنويع مصادر السلاح وشراء طائرات الرافال التى كانت أول من يستقبل الرئيس الفرنسى عند دخوله الأجواء المصرية فكانت خير معبر عن العلاقات المتميزة والتعاون بين البلدين الذى يمتد لقرون حتى قبل مجيئ حملة نابليون ومعه البعثة العلمية التى عثر أحد أفرادها وهو ضابط مهندس يدعى فرانسوا بوشار على حجر رشيد عام 1799 قبل أن يقوم العالم الفرنسى شامبليون بحل الرموز الموجودة على الحجر ويفك طلاسم اللغة الهيروغليفية ونشوء علم المصريات عام 1822 أى قبل اكتشاف كنوز توت عنخ آمون بقرن كامل.. واستمرت العلاقات تتوثق مع فرنسا فى عهد محمد على الذى قام بارسال البعثات ومن بينهم رفاعة الطهطاوى الذى قاد بداية مصر النهضة والحداثة.. ولا ننسى أن الزعيم مصطفى كامل بإجادته الفرنسية قد اتخذ من باريس منبراً لفضح فظائع الاحتلال الإنجليزى أيام حادث دنشواى عام 1906 مما أدى إلى عزل اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر بعد استجابة الصحافة الفرنسية لنداءات مصطفى كامل وشنها حملة على ممارسات جنود الاحتلال.. واستمر الانفتاح على فرنسا أيام طه حسين والعقاد وغيرهم العشرات من المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين والعلماء!!
زيارة ناجحة بكل المقاييس للرئيس ماكرون.. ظهرت بعض نتائجها مباشرة وستحمل الأيام القادمة المزيد من النجاحات خاصة بعد الاتفاق على إنشاء مصنع باستثمارات ٧ مليارات يورو لإنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونيا فى رأس شقير بالبحر الأحمر.. وأخيراً همسة فى أذن المعارضين الذين بعضهم لا يحبون الخير لهذا البلد ولا لشعبه وهؤلاء لا يجب الالتفات إليهم فهم يريدون إلقاء كرسى فى الكلوب لإفساد الفرح.. ولكن هناك من يعارض بدافع وطنى ولكنهم للأسف لم يتخيروا الوقت الملائم للاعتراض سواء من ناحية انتقاد الرئيس الفرنسى لمواقفه ضد العرب والمسلمين فى بلاده أو لتدخلات فرنسا فى أفريقيا.. وبالتأكيد فإن مصر لها مواقف ثابتة من ذلك وهى معلنة وتوجد خلافات فى الرؤى مع سياسات فرنسية.. ولكن هل هذا وقته.. وهناك من استغلوا الزيارة لانتقاد الحكومة لهدم المقابر وعدة مواقع أثرية لبناء الطرق وكلنا كتبنا وقتها ضد ذلك… ولكن هل هذا أوانه.. لهؤلاء نقول ما نقل عن سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه «ليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما يقال حضر أهله وليس كل ما حضر أهله حان وقته.. وليس كل ما حان وقته صح قوله».