بعد ساعات تظلنا رحمات شهر رمضان المبارك الذى جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعًا، فيه يُزاد رزق المؤمن، وتُصفد مردة الجن ليتهيأ للمؤمن فرصة التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة؛ بدءًا من تربية النفس ومجاهدتها لتفعل الخير وتتسابق إليه، لتعم روح التكافل بين الناس وتأتلف القلوب بالمحبة، الأغنياء يدنون من الفقراء، فيتصدقون بفوائض أموالهم ويعود من له فضل ظهر على من لا ظهر له.. وما أشد حاجتنا فى هذه الأيام لإعلاء هذه الروح التى تبنى جسور الحب والتواصل والتماسك بين أفراد المجتمع.
السؤال: هل يستوى من يدرك أن رمضان منحة ربانية وموسم للطاعات والتكافل والتراحم وصلة الأرحام.. ومن حوله إلى شهر ترفيهى يسرف خلاله فى مباهج الدنيا وملذاتها غير عابئ بحرمته، ولا بما أراده الله لنا من وراء فريضة الصيام.. ومن أسف أن الفريق الأخير يتنامى باستمرار ويمنى نفسه بزينة الدنيا وزخرفها، فيسهر الليالى فى التهام ما لذ وطاب ومشاهدة مسلسلات وبرامج مقالب اجتاحت الشاشات وخطفت القلوب وفرغتها من روحانيات الشهر الفضيل.
هل يدرك الصائم أن صيامه ليس القصد منه الجوع والعطش، فماذا يفعل الله بذلك، إنما أراد الله من الصائم الغنى أن يشعر بآلام الجائع الفقير، وأن يمنحه فرصة كى يتقرب إليه بإطعام الفقراء والمساكين وأن يصوم عن الحلال فى نهار رمضان لكى يمضى خطوة أبعد من ذلك حين يقلع عن الإسراف والبذخ ومن ثم المحرمات من باب أولي..!
حكمة الصيام عظيمة وهى تربية النفوس على العطاء والتجرد والاعتدال؛ فليس معقولا أن نصوم النهار عن المباح ثم نفطر على غير المباح، وليس معقولا أن يكون الطعام فى رمضان وجبتين فقط ثم يضاعف إنفاقنا على الطعام والشراب أضعاف الأشهر العادية، حتى أن أرقام الانفاق على الطعام فى هذا الشهر الكريم تتجاوز عشرات المليارات، وبدلاً من أن تذهب فوائض أموالنا لسبل أكثر نفعاً كبناء مستشفى يعالج فيه الفقراء أو مدرسة تقدم لهم تعليما نافعاً أو مصنع يوفر فرص عمال للمتعطلين منهم ينفقها البعض على الملذات وإقامة الموائد البازخة..!!
لماذا انحرفنا بالشهر الكريم عن غاياته المثلى وفرغناه من مضمونه الحقيقى الداعى للاعتدال والاقتصاد فى الاستهلاك والحث على التوفير والادخار.. وبدلاً من أن نكون قلوباً رهيفة تتصدق وتتراحم فيما بينها وتقتصد فى الطعام والشراب.. صرنا قلوباً غليظة تسرف وتبذر، وبطوناً تلتهم ما يصل إليها حتى صارت أوعية شر وبيتاً للداء والعلة وسبباً فى الخمول والتراخى والكسل وضعف الإنتاج.
فهل توقف إسرافنا عند حدود الطعام والشراب أم تجاوزه إلى الإغراق فى السهر على مشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج على اختلافها حتى صار صيامنا مجروحاً..ونقاؤنا الروحى مشوشاً.. وليس مستغرباً فى ظروف كهذه يشتد فيها الطلب على السلع والخدمات أن ترتفع الأسعار بمبرر ودون مبرر، وهو ما تضطر معه الحكومة لضخ موارد إضافية لدعم المتطلبات الزائدة مما يرهق ميزانية الدولة.
شتان بين ما أراده الله لنا من رمضان وبين ما نفعله بأنفسنا فيه..ويبقى السؤال: هل نحن عازمون على الصيام عن الغيبة والنميمة والحقد والغل والحسد وإيذاء الآخرين دون ذنب أو جريرة.. هل يرحم كبارنا صغارنا وأغنياؤنا فقراءنا ومسئولونا مواطنينا.. وهل يوقر صغارنا كبارنا.. هل يتوقف التجار عن جشعهم.. والموظفون عن تلقى الرشاوى أو الإكراميات لقضاء مصالح العباد.. هل يخلى العمال والموظفون عن التذرع بالصيام ليمارسوا الكسل والتراخى وتعطيل مصالح الناس؟!
نحن فى حاجة لاستعادة روح رمضان فننتصر على النفس أولاً؛ لتستقيم سلوكياتنا مع جوهر هذا الدين الذى جعل رمضان فرصة لتريية النفوس على التقوى والعمل والصبر وليس ضيق الصدور والإسراف والكسل والبذخ والسهر..!!
سيظل لرمضان خصوصية وفرحة فى قلب كل مؤمن، ففيه نفحات لم تتوفر لغيره من الشهور، ويكفيه أنه شهر القرآن..فلا أقل من أن نحسن استقباله بإصلاح ذات البين والاعتذار عما قد يكون بدر منا لأهلنا أو جيراننا أو زملائنا فى العمل أو فى أى مكان؛ فالرجوع للحق خير من التمادى فى الباطل.. وإصلاح القلوب فريضة واجبة فهى محل نظر الله تعالي، فالله لا ينظر إلى صورنا وأجسادنا ولكن ينظر إلى قلوبنا ولا يصح أن يشوبها حقد أو كبر أو كراهية أو ضغينة لأحد.
اللهم ارزقنا حسن الفهم وحسن العمل وشجاعة الاعتراف بأخطائنا حتى نبدأ فى إصلاح أنفسنا.. اللهم انزع الغل والحسد من قلوبنا والخناجر من أيدينا والجحود والنكران ومن تصرفاتنا، والعنف من سلوكيات أبنائنا وأجيالنا الجديدة التى تشربت هذا المسلك من الدراما والأعمال الفنية الهابطة.. اللهم احفظ شبابنا وجنبهم الغش والاستسهال وارزقهم فهم ما يدرسون حتى يخرجوا لسوق العمل مسلحين بالمعارف والخبرات والمهارات المؤهلة للمنافسة.. اللهم احفظ مصر وشعبها ورئيسها وجيشها وشرطتها.. واجعلها على قلب رجل واحد لتكمل ما بدأته من إنجازات ومشروعات سوف تنقلها لمصاف الدول المتقدمة.. اللهم بلغنا رمضان وأعنا على الصيام وصالح الأعمال.
أرجوكم اجعلوه شهراً للإيمان والحب والخير والتسامح وجبر الخواطر.