اتفاق وقف إطلاق النار فى لبنان، بين حزب الله وإسرائيل، الذى من المفترض أن تنفيذه بدأ منذ فجر أمس برعاية أمريكية فرنسية، اتفاق هش، وغير متوازن، وتحيط الشكوك بمدى قابليته للاستمرار.
الاتفاق ينص على هدنة مدتها ستون يوماً للطرفين لتنفيذه عسكرياً على الأرض.. من الجانب اللبنانى يتضمن نزع سلاح حزب الله أو السيطرة عليه، وانسحاب مقاتلى الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، وأن ينتشر الجيش اللبنانى محل الحزب فى الجنوب، بحيث لا تكون هناك أى قوة أو عناصر مسلحة فى هذه المنطقة وحتى حدود الدولة اللبنانية مع إسرائيل سوى الجيش اللبنانى وحده.
ومن جانب إسرائيل ينص الاتفاق على أن تنسحب كلية من الجنوب اللبناني.
من حيث المبدأ، لا يتضمن تاريخ إسرائيل فى حروبها مع الدول العربية أو فصائل المقاومة بها التزاماً واحداً بأى اتفاق هدنة أو وقف لإطلاق النار أو احتراماً له.
دائماً ما تتخذ إسرائيل هذه الاتفاقات وسيلة لزيادة «غلتها» من المكاسب التى لم تحققها خلال استمرار القتال.. ففى العقيدة العسكرية الإسرائيلية، مثل هذه الاتفاقات توضع لتخترق، وتوافق عليها لظروف اضطرارية وقتية بنية انتهاكها.
نتذكر أول اتفاق هدنة ووقف مؤقت لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس فى غزة.. لم تتوقف الغارات الجوية على غزة طوال فترة الاتفاق، رغم التزام حماس بالاتفاق وإطلاق سراح ما تضمنه من محتجزين لديها.
ولا تحتاج إسرائيل فى ذلك إلى اختلاق ذرائع لانتهاك أى اتفاق، أو التعلل بأن الطرف الآخر كان البادئ، وأنها استعملت حقها المشروع فى الدفاع عن النفس، لسبب بسيط، وهو أنها لم تتعرض لأى عقاب أو حتى لوم على هذه الانتهاكات، حتى من رعاة الاتفاق أنفسهم.
مبادرة «بايدن» التى أعلنها الرئيس الأمريكى نفسه، وقدم بها مشروع قرار لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار فى غزة، وكف يده ـ لأول مرة ـ عن استخدام الفيتو حتى يتم تمرير القرار، وصدر القرار بالفعل ولم ينفذ على الأرض حتى اليوم رغم موافقة حماس عليه، وترحيب السلطة الفلسطينية والجامعة العربية به، لأن إسرائيل لم تتوقف عن العبث ببنوده، وإقحام تعديلات عليه لا وجود لها فى صلبه.
هل عاقبها بايدن على ذلك، والمبادرة والقرار يحملان اسمه وينتسبان إليه؟! لم يحدث.
اتفاق الأمس كان سخياً فى تحديد ستين يوماً لإتمام تنفيذه، وهى مدة طويلة لا نظن أن الجانب اللبنانى يحتاجها لتأهيل جيشه، ونشره فى الجنوب، لكن إسرائيل تحتاجها للإجهاز على ما تبقى من بنية تحتية وقوة بشرية وتسليحية لحزب الله، ولذلك علينا أن نتوقع خرقاً يومياً للاتفاق مع كل خطوة إلى الوراء يتخذها الجيش الإسرائيلى فى انسحابه من الجنوب اللبناني.
ماذا ستفعل لجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق المكونة من أمريكا وفرنسا؟! لا شيء أكثر من تسجيل الخروقات وأطرافها لكى تجيز لإسرائيل استعمال حقها المدعى فى الدفاع عن النفس، رغم نص الاتفاق على أن هذا الحق للطرفين وليس لإسرائيل وحدها.
ما نتوقعه ليس تجنياً على إسرائيل، لكن من واقع تجارب على مدى ستة وسبعين عاماً من قيامها.. وأحدثها ما ذكرته عن تجربتها مع حركة حماس فى غزة.
بل إن تعقيب نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية على الاتفاق كان واضحاً، وهو أن إسرائيل ستطلق يدها فى لبنان فى حال خرق حزب الله للاتفاق، وأنها لن تتوقف إلا بعد تحقيق النصر الكامل، وللأسف، فإن الاتفاق يتيح لها ذلك، فلا يوجد فيه نص على أى عقوبة للطرف الذى يخرقه، بينما أعطى لإسرائيل الحق فى رسم الخريطة الداخلية للبنان الدولة ذات السيادة.
فالاتفاق هو الذى يحدد إلى أى نقطة داخل لبنان يجب أن ينسحب حزب الله «اللبناني»، وهو الذى يفرض نزع سلاحه، وهو الذى يفرض على الدولة اللبنانية ألا يكون فى جنوبها أى عناصر مسلحة من غير أفراد جيشها.. بينما لا يتدخل الاتفاق ـ فى المقابل ـ فى الشأن الداخلى الإسرائيلي!!
الاتفاق يتضمن ـ على استحياء ـ نصاً بضرورة دعم تسليح الجيش اللبناني.. لكن.. ماذا عن تسليح الجيش الإسرائيلى الذى يعززه راعيا الاتفاق بما يطلبه من دعم؟!
الجيش اللبنانى أعلن أنه سوف يدفع خمسة آلاف جندى للانتشار فى الجنوب.. نتنياهو لم يحدد حجم قواته التى ستتمركز فى شمال إسرائيل بعد الانسحاب.
نتنياهو أعلن أن الاتفاق يتيح فرصة لإسرائيل للعودة بصورة أقوى إلى جبهة غزة للوصول إلى وقف كامل لإطلاق النار حتى يتفرغ لإيران.
وهو يريد غزة بدون حماس، وبدون الضفة الغربية التى يخطط لإعادتها إلى السيطرة الإسرائيلية الكاملة وفصل القطاع عنها.
وبالطبع هناك زعماء اليمين المتطرف فى حكومة نتنياهو يرفضون الاتفاق أصلاً، ويزايدون على نتنياهو حتى يمكنه أن يقول للبنان ولراعيى الاتفاق ـ أمريكا وفرنسا ـ إنه لم يحصل على موافقة حكومته على الاتفاق إلا بشق الأنفس، وإن غير ذلك سيؤدى إلى سقوط الحكومة.. أى ببساطة.. هذا كل ما لديّ الآن، ولا أضمن لكم الالتزام به غداً.
الاتفاق خطوة على طريق ألف ميل، تحيطها كل ما أشرت إليه، وما لم أدركه منها بعد.
ودعونا ننتظر.. لنر.