أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
قبيل انتصار أهل سيناء والقناة على العدوان الثلاثى بأشهر قليلة جاء مولود بطل فى الثامن من يونيه لعام 1955 بقرية المساعيد وابن قبيلتها (المساعيد)… مقاتل منذ ميلاده؛ فقد علمته الأرض كيف يذود عنها كما هى قد فطمته على عشقها، فشأنه فى ذلك كبقية الشبان من أبناء سيناء، يغار الفتى عليها ولو كلفته غيرته حياته، لكنها تبقى كما تسلمها من آبائه ومن قبلهم أجداده: سيناء المقدسة، لا يدنثها محتل ولا يسلبها مغتصب، هكذا تربى الفتى، وبقداسة التراب اشتد عوده واستوى. من بداية مشوار البطولة يحكى البطل الشيخ أحمد حسن عياده المسعودى: «… كان الجرح غائرًا ورغم كونه مدفونًا فى خلجات نفسى إلا أن كل مَن حولى كانوا يرونه كقرص الشمس المستعر اشتعالًا، ومع وطأة أول قدم لهؤلاء الصهاينة على ترابى المقدس شعرت بأننى أفقد عزيزًا وغاليًا على نفسى، وربما أننى قد فقدت نفسى بالكلية؛ فظللت هائمًا على وجهى لا أصدق أن الكابوس حقيقة تستوجب التعامل معها؛ لا بالتعايش والاعتياد إنما بالتدبر للثأر والقتل، لكن كان هناك عائق يمنعنى من اتخاذ المبادرة فى قتل هؤلاء الصهاينة المعتدين، فما زال الجرح لم يندمل وما زالت تتقطر من سيناء مجموعات الجنود العائدة من يونيه 67، وحسمت أمرى ومَن معى من أبناء قبيلتى أننا يجب علينا أولًا ترحيل هؤلاء الجنود إلى غرب القناة؛ فهذه هى المهمة التلقائية التى أمرتنا بها وطنيتنا، وانصعنا لهذا الأمر الوحيد فى ذاك التوقيت، فمن الواجب على أبناء سيناء الحفاظ على سلامة إخواننا من رجال الجيش المصرى، خصوصًا وأن معظمهم كان عائدًا من غير سلاحه، بل ومن غير شدته التى تحوى مع ذخيرته طعامه وشرابه، وكان منهم الجرحى وأيضًا المنهكون، لذا كانت المهمة الوطنية الأولى هى: الحفاظ على حياة هؤلاء الجنود من الأسر جراء ملاحقة الصهاينة لهم، وتطلب هذا الأمر أولًا أن قمت ومعى رجال القبيلة بتقسيم أنفسنا لمجموعات تجوب صحراء سيناء لتلقف العائدين من الجنود وتجميعهم فى أماكن نعلمها نحن أبناء الأرض ولا يعلمها الصهاينة الأغراب، ومن ثم يبادر البعض منا بتجميع الطعام والماء والأغطية والملابس البدوية لتأمين تحركات الجنود من سيناء إلى غرب القناة، وظلت تلك العمليات بذات التنسيق المتفق عليه فيما بيننا طوال يونيه وكامل يوليو وبدايات أغسطس، حتى ندر على مجموعات البحث منا اكتشاف أحد من جنودنا فى صحارى سيناء.
لكن كانت أشد المناظر إيلامًا فى نفسونا نحن أبناء سيناء عندما لم نستطع إنقاذ بعضًا من جنودنا العزل ورصاص الغدر من الصهاينة ينفذ إلى صدورهم فى حالات الإعدام والقتل الجماعى من جانب الصهاينة للرجال الأبرياء العزل، الذين كان الواحد منهم يموت مرة واحدة وكل واحد من أبناء سيناء يموت مئات المرات ونحن نرقب عن كثب متخفين خلف سواتر الأرض من الكثبان والتلال ولم نحرك ساكنًا، لا لشيء سوى أننا لم يكن معنا سلاح، وأيضًا لم تصدر لنا تعليمات من عناصر الجيش التى تنظم عملنا بالتعامل المباشر مع العدو الصهيونى، فلم يكن جبنًا منا إنما كان الواحد منا يقبض على قلبه المعتصر ألمًا من هول الفجيعة ونحن نطيع الأوامر حماية لبقية المجموعات التى كنا ننقلها إلى الغرب.
كان كابوس الصهاينة على تراب أجدادى الذى أظنه هو من أديم عظامهم؛ ذاك الكابوس يطاردنى فى منامى وفى يقظتى، وزاد الأمر بشاعة تلك المشاهد لقتل الصهاينة بدم بارد وخسة لإخوانى من رجال الجيش، الذين لم أستطع أن أغمض الطرف عنها، بل وجدتنى وبإرادة عجيبة أملأ عينى بصور قتل الصهاينة لأهلى وإخوانى من رجال الجيش العزل، وكذلك لا تزال تطن أذناى بصوتين أميزهما بعناية، الأول: صوت طلقات الرصاص الغادرة، والثانى كان صوت الرجال وهم يرددون بصلابة فى وجه الرصاص «تحيا مصر.. تحيا مصر» قبل أن ينالوا الشهادة، كان صدى صوتهم بكلمتى «تحيا مصر» تُرجعه إلىَّ جبال سيناء فى أنشودة ثأر لم يزل وقعها حتى الآن يتردد فى أعماقى.