أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعاً ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سرداً لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحداً سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعاً من قداسة البطولة.
الحكاية الآن عن بطل من أبناء سيناء رغم عدم تعلمه إلا اليسير من القراءة والكتابة إلا أنه بذكائه الفطرى ابتدع طريقة لتدوين تقاريره عن الأعداء الصهاينة، وكان يوصلها بمنتهى الدقة والأمان–أيضاً– لعناصر القوات المسلحة المصرية المعنية بجمع المعلومات عن العدو الإسرائيلي، ليس بجهاز إشارة عبر الأثير، ولم تكن بالحبر السرى من خلال البريد، وأيضاً ليس بالتواصل المباشر كبقية العملاء، لكنها طريقة تفرد بها ويحكى لنا عنها وعنه الابن سليمان أوسط أبنائه ترتيباً.
…عن البطل الشيخ منصور عيد سالم الهرش من قبيلة الهروش البياضية بمدينة بئر العبد، الذى ولد الحادى والعشرين من شهر أبريل لعام 1940 بقرية رابعة بشمال سيناء فى مركزرمانة، لم يحصل سوى على شهادة الإعدادية عام 1983 لأنه لم يكن هناك تعليم فى أثناء حرب 1967 وما بعد حرب أكتوبر 1973/ رمضان 1393، إلا أنه كان هناك ما يسمى بالكتاب الذى حفظ من خلاله أجزاء من القرآن الكريم وتعلم شيئاً من القراءة والكتابة، وبدأ الانضمام للمقاومة فى عام 1967 بعد حرب النكسة.
وعن العمليات التى كان يقوم بها منفرداً لصالح القوات المصرية أو التى تشارك فيها مع أبناء سيناء الأبطال؛ فكان عليه مراقبة تحركات مركبات العدو وإبلاغ المخابرات المصرية بالعدد المتجه من شرق سيناء إلى القنطرة شرق، وأيضاً تقديم الوصف الدقيق عن معدات وآليات الصهاينة وأعداد أفراد قواتهم ونوعيات تسليحهم، وعندما تم القبض عليه أمضى فى السجون الإسرائيلية مدة عامين، ونال أشد أنواع التعذيب والإهانات حتى خرج من السجن، وقالوا له أكيد بعد اللى شوفته لن تمارس نشاطك مرة أخري، وكانت عليه مراقبة شديدة من قبل الصهاينة إلا أنه اعتاد توصيل الطعام لأهله من سكان الجبال، وكان فى هذا العمل بالإضافة لرعيه للإبل والأغنام كما بقية أهل سيناء؛ كان ذلك بمثابة ستار يخفيه عن أعين الصهاينة..يحكى سليمان.. ولكن لذكاء الوالد– رحمة الله عليه–، الذى لم يدون معلوماته عن الصهاينة ولم يمسك قلماً ولا ورقة ليسجل عدد الدوريات الإسرائيلية القادمة إلى القنطرة شرق حيث النقاط الحصينة التى كان الصهاينة يهتمون بتسليحها وتقويتها، فكان والدى عندما يشاهد دورية للصهاينة يجمع عوداً من الحطب ويضعه فى جيبه إلى جوار الثانى والثالث وهكذا حتى يتم عدّ الأعواد ليكون مماثلاً لعدد الدوريات من الصهاينة، حتى إذا غادرت كل الدوريات إلى القنطرة شرق أخرج والدى كل عيدان الحطب، وبمجرد عدهم يقوم بالإبلاغ إلى القيادة المصرية عبر الوسطاء من القوات المصرية، ومن خلال ترك الأعواد التى جمعها فى موقع متفق عليه مسبقاً مع عناصر المخابرات المصرية، ودون أن يتم اللقاء مع أحد حتى لا يتم رصده، وبهذه الحيلة خدع القوات الإسرائيلية ونبه القيادة المصرية بعدد الدوريات القادمة إلى القنطرة شرق، حتى يستعد الجيش المصرى للتعامل مع هذه الدوريات..وأما أصحابه من أبناء سيناء الأبطال والمتعاونين معه من المجاهدين الفدائيين، فكانوا كثيرون جدا ومنهم الشيخ متعب هجرس، والشيخ سالم الهرش وزوجته الحاجة كوكب، والشيخ خليف مقيبل وزوجته الحاجة فهيمة، والحاج مقبول نصار، والشيخ سعدى علي، والحاج على نصار، والحاج على عيد علي، والشيخ سالم عيد علي، والحاج عيد محمد سالم، والشيخ إبراهيم علي، والشيخ على سعدي، والشيخ سعدى عصر، والشيخ جمعة سالمان، والشيخ محمود إبراهيم، والشيخان سليمان نصار وأخيه سالم نصار وهدهد سيناء الشيخ أشلاش، رحمهم الله جميعاً..ويحكى الابن عن زواج والده من والدته السيدة مرزوقة منصور سليمان، التى أنجب الحاج منصور عيد سالم منها الابنة الكبرى هويدا منصور، ثم الأبناء على وسالم وسليمان، والمرحوم صلاح منصور– رحمة الله عليه– ، أما البنات فهن فاطمة وسماح وفريال وأميرة.
وكان جدى عيد سالم منصور– رحمة الله عليه– له زوجتان؛ الأولى الجدة فاطمة سليمان، والجدة عايدة عيد رحمةالله عليهما، أما إخوته وهم نصار وعلى عيد– رحمة الله عليه–، وعيد والسيد والمرحوم خليف، ومحمد وجمال ورضا، وسالم عيد– رحمة الله عليه– ، والأخوات ست البنات وفاطمة عيد– رحمة الله عليه–، وصبحة ومرزوقة ووداد.
…ويقفز بالحكى الابن سليمان لفترة ما بعد عودة سيناء بالكامل؛ حيث تم تعيينه فى مديرية الثقافة فى العاشر من شهر يوليو لعام 1987 بوظيفة خدمات معاونة فى بيت ثقافة رابعة، وهو يُعد أقدم وأول موقع ثقافى فى شمال وجنوب سيناء، وانتقلت الإدارة من القنطرة إلى العريش، وأصبحت مديرية ثقافة شمال سيناء، حتى خرج على المعاش فى عام 2000 ثم توفى بعد صراع مع المرض فى يوم الجمعة الثالث عشر من شهر يونيه لعام 2014.
نجله سليمان منصور عيد سالم مدير بيت ثقافة رابعة أو الثلاثين من يونيه– حالياً– بشمال سيناء بمركز رمانة.
…ويعود الابن للحكى عند بداية عام 1969 ونتيجة لشكوك الصهاينة فى احتمالية تعامل الشيخ منصور عيد مع القوات المصرية؛ لذا تم أسره لمدة عامين فى سجن غزة وهو أحد سجون الاحتلال الصهيوني، ونال خلال السنتين أشد ألوان العذاب حتى يعترف بتعاونه مع القوات المصرية، لكن وطنيته الفطرية منعته من الإدلاء بأية معلومات عن علاقته بالقوات المسلحة المصرية، وأيضاً كان لحبه الشديد لزملائه الفدائيين من أبناء سيناء ما منعه أيضاً من أن ينطق بأى اسم من هؤلاء الأبطال من أبناء سيناء، رغم التعذيب الذى فاق حد الإنسانية وجاوز الخيال الانتقامى المريض، وطال الإيذاء البدنى والنفسي، ومُنع الطعام والشراب عنه لأيام، بل وترك لإصابات التعذيب دون علاج ليتألم علّه ينطق ببنت شفاة تشفى غليل الصهاينة، لكن عذابهم مع صبره كان يذهب سدى حتى اطمأن الصهاينة على مدار عامين أنه لا جدوى من تعذيبه ولابد من تركه مع آلامه(!)… ومن صنوف العذاب التى حكى لنا عنها والدنا أن الصهاينة كانوا يصعقون أطرافه، ويطرقون على أنامله حتى يكسرون أصابعه، ويقلّعون أظافره، ويمنعونه من النوم لعدة أيام حتى يرهقون جهازه العصبى ثم ينهار ويعترف بما يظنون أنه يقوم به من أعمال فدائية، أو أن يُدلى بأسماء مَن يعرف عنهم بقيامهم بأعمال تعاون مع القوات المصرية، لكنه كما جبال سيناء صلداً لا ينطق، وحمولاً كجمال سيناء يصبر ويطيق حتى يحين له توقيت الانتقام، وكان يقول لنا:»…إن انتقامه من الصهاينة كان يتمثل فى التزامه الصارم بالتعليمات الصادرة له من القوات المصرية بمنتهى الدقة، حتى يتمكن من إنفاذ صبر الصهاينة بعد ممارستهم لشتى صور العذاب دون جدوي.
كان البطل الشيخ منصور يحكى لنا بعد عودة سيناء، عن أمر بالغ التأثير فى نفسه، وكان يمده بقوة عجيبة تمكنه من الصبر على عذاب الصهاينة له مهما كانت شدته؛ وهو أنه كان يغمض عينيه على أمل يراه قريباً ويراه الصهاينة بعيداً، وهو أنه كان يرى فى زنزانته الانفرادية الضيقة جداً– التى لم تتجاوز المتر ونصف المتر فى المتر الواحد– هذا المقاتل البطل يعبر قناة السويس، ويعتلى النقاط الحصينة، ويطأ بقدميه خط بارليف، ويصل إلى حدود سيناء الشرقية مطارداً لهؤلاء الصهاينة بالقتل والأسر، ويرفع علم مصر على كل شبر من أرض سيناء،… هذا الأمل هو الذى كان يقوى من عزيمته ويزيد من صلابته فى زنزانته التى كان يقضى بها أياماً طويلة لا يستطيع أن يفرد ظهره، فكانت بمثابة القبو أو القبر كأسلوب من أساليب تعذيب الصهاينة..وأيضاً شارك أبطال سيناء فى كتابة التقارير التى تهم القوات المصرية فى معرفة الطرق الرملية والوعرة والمدقات، وتقديم وصف دقيق لطبيعة الطرق الرئيسة والتبادلية، وتحديث تلك المعلومات بصورة دائمة لإزالة العقبات التى قد تواجه الجندى المصرى بعد عبوره مانع قناة السويس، واقتحامه النقاط القوية شرق القناة.
.ومن المسجونين بمعتقلات الصهاينة من أصدقاء البطل كانوا الشيخ متعب، والشيخ سعدي، والأخوين الحاج سالم نصار والحاج مقبول نصار، والحاج أشلاش هدهد سيناء وكلهم عليهم رحمة الله لاقوا من الصهاينة أشد صنوف العذاب فى أثناء اعتقالهم حتى يثنيهم العذاب من مساعدة رجال القوات المسلحة فى الحصول على أية معلومة عن قوات الصهاينة.
ومن المواقف التى كان والدى يحكى لنا أنه لاينساها، أنه كان يتحرك بالجمال فى صحراء سيناء لتوصيل الطعام والشراب إلى أهلنا من البدو الساكن فى الجبال، الذين كانوا لا يستطيعون التحرك فى الصحراء بسبب الحرب، فكان يخاطر بحياته من أجل نجاح هذه المهمة، التى كانت فى ظاهرها نقل الطعام للبدو فى الجبال وفى حقيقتها هى كشف معلومات عن تجمعات العدو واستعداداته وتحركاته .
ويحكى سليمان أحد أبناء البطل منصور عيد أنه ووالدته وإخوته وأسرة البطل جميعها كانوا يضحون بالغالى والنفيس من أجل إزالة أية صعوبات قد تواجه الجندى المصرى أثناء عبوره إليهم ليحرر الأرض، فكان أهل البطل أيضاً يتعرضون لمداهمات من الصهاينة بصفة دائمة نتيجة شكوك الصهاينة فى احتمال تعاون أى من أفراد الأسرة مع القوات المصرية، رغم أننا كنا حينها أطفالاً أكبرنا لم يتجاوز الخمس سنوات؛ فإن ذلك لم يمنعهم من إيذاء النساء والأطفال لترهيب البطل الشيخ منصور، ولم يثنِه عذاب أسرته عن التعاون الصادق والمخلص مع القوات المصرية وبعد انتصار المقاتل المصري– كما كان يحلم ويتمنى البطل ابن سيناء– كرمته الدولة المصرية بنوط الواجب من الطبقة الأولى مع الكثيرين من أبناء مصر السيناوية، الذين أسهموا مع قواتهم المسلحة فى نصر العاشر من رمضان/ السادس من أكتوبر.