ما زال مشهد جنود يونيه 67 أسمعهم يرددون «تحيا مصر»
أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا، ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
مع مرور الوقت كان يحدث للمجموعة الفدائية أمران غاية فى الأهمية، كان الأول: هو الخبرة المتراكمة من العمليات المتتالية ضد الصهاينة؛ فقد تعرفنا على أساليب العدو كافة فى الدفاع والهجوم والقبض والتحقيق وكيفية ردة فعلهم عقب عمليات التفجير أو القتل، تلك الخبرة جعلت من أهدافنا ليس الثأر لجنودنا وتدنيس أرضنا وجلائهم فحسب، بل أيضًا ظل هدفا رئيسيا يراودنا فى أثناء تخطيطنا للعمليات الفدائية الانتقامية هو: إذلال العدو الصهيونى وليس قتله فحسب!
وثانى الأمرين أهمية كان يتمثل فى رغبتنا الشديدة فى التواصل مع قواتنا المسلحة لنحقق لها هدفًا نموت من أجله وهو: أن نكون سمعها وبصرها وساعدها إن لزم الأمر فى سيناء.
الصيد الثمين
كانت المعلومات المؤكدة من عيوننا هو انتظام أتوبيس إجازات يأتى من القناة إلى العريش بصفة منتظمة، ينقل الضباط والضابطات حتى محطة العريش ومنها الجزء الثانى من الرحلة إلى فلسطين المحتلة، ليعود بغيرهم البدلاء من أطقم الضباط والضابطات، وهذا الأتوبيس ينفذ رحتله تلك من القناة إلى العريش كل خمسة عشر يومًا، ويكون أمام محطة سكة حديد العريش فى الثانية عشرة ظهر يوم القدوم من القناة إلى العريش، وبه من أربعين إلى اثنين وأربعين من الضباط والضابطات الصهاينة.
ستة أشهر هى مدة الرصد والمراقبة المتأنية، والتى أيضًا خلالها تم التخطيط لكيفية تفجير أتوبيس الإجازات هذا الصيد الثمين، وتغيرت الخطة أكثر من مرة؛ فقد قام عبدالحميد بتصنيع عبوة كبيرة من البارود الذى كنا نحصل عليها من إخواننا الذين أخفوا بعضًا من ذخائر الجيش بعد يونيه 67 لاستخدامها لهذه الأغراض، لكننا سمعنا عن تفجير قامت به عناصر فدائية أخرى لا نعلم أسماءها ضد الصهاينة استخدمت فيها مادة أكثر فتكًا من ذاك البارود الذى نستخدمه؛ لأنها كانت تقتل كل الأفراد المستهدفين ولا تترك وراءها جرحي، وأيضًا كانت تمزق المجنزرات مهما كان تدريعها؛ لذا تفرغ حجاج وسعد جلبانة بالبحث عن تلك المادة التى تنهى على العدو الصهيونى ولا تترك منه مصابًا، وبالفعل بعد مضى شهرين دفعا باب الوكر وهما يصرخان بالضحك ويهللان ويبدو على وجههما سعادة لم نرها فى أحد منا من قبل ، ومرت عشر دقائق ولم نستطع أن نحصل منهما على سبب سعادتهما حتى أجهدهما الضحك وجادا علينا بما نسأل عنه، وقال حجاج: «جئناكم من سبأ بنبأ يقين». وهنا أشاح عبد الحميد بوجهه يسارًا ناحية الباب يريد طردهما، فلم يشفى شبقنا للمعرفة ما قاله حجاج، وهَمَّ عادل الفار بالهجوم على جلبانة الصامت الذى يبخل علينا بمعرفة سبب سعادتهما، وما كان منى إلا أن قمت ناحيتهما وهما يعلمان عن فتوتى وقوتى ما رأوه على الأعداء الصهاينة، فاستسلما الرجلان ورفع حجاج يده معلنًا الانسحاب من معركة يعلم نهايتها، وسحب جلبانة كرسى المائدة ليستريح من إجهاد السفر والضحك معًا، وأشار لنا جميعًا بأن نقترب، ووضعنا رءوسنا تحت حرارة اللمبة حتى أعتمت الحجرة من سحابة الرجال، واستطرد جلبانة: «أنا تواصلت مع حجاج مع الناس اللى عندهم مادة التى إن تي». هلل عبدالحميد وقال: «رغم أننى حاتعب من جديد إلا أن هو ده الخبر اللى يزيح التعب بالفرح»، وأشرت إلى جلبانة ليكمل حديثه، وقال: «الحبايب من بدو الوسط عندهم كمية كبيرة من صواريخ الكاتيوشا التى لها رأس مدمر يخترق دروع الدبابات الصهيونية ويقتل أطقمها»، قاطعته وقلت له: «يا سعد احنا ما عندناش قواذف ولسة حنتدرب عليها، وديه محتاجة مكان وأساليب تمويه وإخفاء شديدة الخطورة، و…»، وقبل أن أكمل، قاطعنى سعد: «اصبر لآخر الكلام يا رشاد أنا ما خلصتش كلامي، الحكاية أنهم حيخرجوا من رءوس الصواريخ مادة التى إن تى وعبدالحميد يصنع منها عبوات شديدة الانفجار». وتدخل حجاج: «هنا نقدر نقتل الصهاينة ولو من وراء جدر».
هلل الجميع وارتسمت السعادة على وجوهنا وملأت صدورنا التى كانت فى حاجة لشيء يثلجها بعدما نشاهده يوميًّا من تحركات للعدو فى العريش تستفز مشاعرنا وتهين كرامتنا.
وتمت إعادة تفاصيل الخطة لتكون بعد تصنيع عبد الحميد لعبوة شديدة الانفجار تنهى على كل مَن فى الأتوبيس بالكامل، وكان على فضل وعادل أن يزرعا العبوة فى سلة القمامة بجوار موقف الأتوبيس بالتحديد الدقيق، وعليَّ أنا وحجاج وسعد أن نمنع اقتراب أى من أهالى العريش من موقف الأتوبيس بشكل عفوى وتلقائى لا يبدو عليه التعمد، ومع اقتراب الساعة صفر، نبأتنا العيون باقتراب الهدف من نقطة التنفيذ؛ قام عبد الحميد بوضع العبوة فى موضعها المحدد داخل سلة القمامة، وقام بتحديد توقيت المفجر بعد خمس عشرة دقيقة من تركه لها فى المكان الذى سيقف بجواره الأتوبيس، ومرت الدقائق العشر الأولى ولم يأت الأتوبيس إلى الموقف، ولم يتبق سوى خمس دقائق، والنظرة إلى الطريق تؤكد أنه لن يصل فى ميعادة، فاتخذت القرار بإبعاد العناصر الفدائية من موقع التفجير حتى لا يتأذى أحد منهم، وعلم كل منا أن التفجير سيحدث دون أى ضرر بالهدف الذى لم يصل بعد، وأن ذلك سيعنى خسارتنا للعملية وضياع مجهود ستة أشهر كاملة، فضلًا عن عدم قدرتنا على اصطياد هذا الصيد مرة أخري؛ لأن العدو سيتخذ إجراءات الحيطة والحذر فى انتقالات ضباطه وجنوده المجمعة، وأرسلت نظرات الأمر باتخاذ كل منا لساتر يحميه من الانفجار الوشيك، مع استمرار تأمين عدم اقتراب أى من أهالينا لمنطقة التنفيذ التى أصبحت فارغة من الهدف.
ومرت الدقائق فى سرعة خاطفة وكل منا يستتر بثنايا رملية أو جدار يحميه من موجات الانفجار التى أطال عبدالحميد التحذير فى شرحه لعناصر المجموعة بحتمية الابتعاد لمسافات آمنة، بل وخطورة الإصابة بالصمم المؤقت الذى قد يصاحب نزيف من الأذنين، كل هذه التحذيرات جعلتنا نبتعد خلف سواتر ونحن نعتصر بالحصرة والندم على فوات فرصة قتل الصهاينة والثأر لجنودنا من قتلهم تحت جنازير الدبابات، تلك المشاهد التى سرحت إليها ولا أعلم ربما هى التى ما زالت فى ذاكرتى تراودنى أينما أغمضت عينيَّ، وإذا بصرخات جنازير الدبابات تقتل تكبيرات الجنود ودعواتهم «تحيا مصر» وهم مربطون بالحبال فى انتظار مرور الدبابات عليهم، وأنا أزيد من ضغط إبهام يداى لأحشرهما داخل أذنى حتى لا أسمع صريخ الجنازير تقتل إخوانى الجنود فى داخلي، إلا ووجدتنى أرتطم بعيدًا عن مكانى لعدة أمتار، وكأن شيئًا ما قذف بى بعيدًا وبقوة دحرجتنى على الأرض، وكأننى حجر صغير يرتطم بصخرة يكاد يتفتت من أثر الارتطام، وما زلت أمسك على غلق عينى بقوة حتى لا أرى موتى الذى تصورته قد حدث بالفعل ولم أعلم له سببًا، لكننى ما زلت أتحدث إلى نفسي، أنا لم أجرب الموت فلا أعلم هل هذا حديث بين الميت وروحه التى تفارقه، أم أننى ما زلت حيًّا، تنفست الهواء وزفرته ببطء فتيقنت بأن الحياة ما زالت تدب فى أوصالي، فساقنى الفضول شيئًا فشيئًا حتى سمحت لبصيص من نور يدخل إلى عيني، فكان المشهد الذى بدأ يكتمل كلما فتحت عينى رويدًا رويدًا؛ الدخان.. الدخان العملاق هو البطل فى الصورة التى بلا صوت ولا أدرى لماذا فقدت القدرة على السمع، فأفتح حدقتى عينى لأنهما الوسيلة الوحيدة لإدراك ما يحدث، … تعتلى محطة السكة الحديد سحابة من الغبار الأسود… اتلفت برأسى وما زلت لا أقوى على الحراك أكثر من دوران رأسى دائرة غير مكتملة يعوقها آلام عصفت بكل جسدي، حسمت الأمر وتملكتنى رغبة عارمة لأعرف ماذا حدث؟!
أتحسس بيدى على الأرض فإذا بى أمسك بكتلة دم لم أستطع معرفة هويتها أو تحديد أبعادها، فقد انتابتنى قشعريرة لا مفر من سطوة سيطرتها الحاكمة، حاولت الاعتدال فجلست كما جلسة الجسد حين يأتيه الملكان عند أطراف نهاية الكون والحياة، فإذا برأسى منثور عليه هشيم الزجاج الذى عاد معظمه إلى أصله واستقر على الأرض بجوار حبيباته الأم، أطل برأسى لأختلس مشهدًا أو جزءًا من مشهد يدلنى على ما أنا فيه الآن، فإذا بالأتوبيس مشطور نصفين وسقفه غير موجود، وأجزاء دالة على أنها كانت كراسيه متناثرة محترقة يتصاعد من جلدها الدخان، وينكمش الإسنفنج منها إلى حد قبضة اليد، المشهد صورة بلا صوت أسمعه، حتى صوتى لا أسمعه، أكرره على نفسى ولا أسمعه، لكننى ما زلت أرى شفاة الجنود تتحرك بما تعنيه «تحيا مصر»
هذه الصورة التى لا تزال تكحل عينى عنوانها: «لا حياة للصهاينة عند محطة العريش».
وفى القادم إن شاء الله حديث عن عمليات التفجير والنسف لأهداف أكبر!