أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
ظلت أعمال توزيع المنشورات المناهضة لبقاء الصهاينة فى سيناء منذ شهر يونيه وحتى يونيه الذى يليه، عامًا كاملًا تحث فيه مجموعة الفدائيين أهالى العريش بمقاومة الاحتلال وعدم التعاون معه، وفى الوقت ذاته استمرت عمليات نقل الجنود من رفح والشيخ زويد والعريش وبئر العبد عبر ملاحات وبحيرات بورسعيد صوب الضفة الغربية، وكانت تلك الأعمال حتى اكتمال العام من الاحتلال الصهيونى فى يونيه 68 لم نرها سوى عمليات سلمية لم نهاجم خلالها العدو الصهيونى إلا عندما ترغمنا الظروف على فعل ذلك، لكننا كنا متمسكين بتحقيق أهدافنا فى توعية أهالى سيناء من مخاطر العدوان الصهيوني، وتأمين عودة الجنود سالمين.
البداية ضد شعار صهيونى على جدران العريش!
ومع ندرة وجود الجنود فى شمال سيناء، هنا بدأت أعمال مناوشات من جانبنا ضد الصهاينة، وكانت البداية عندما تجرأ العدو الصهيونى وكتب على جدار مبنى المحافظة القديم الذى استولوا عليه، وقد كتبوا «إسرائيل من الفرات إلى النيل ولدت لتُمَوت». وبادرنا بطمس هذا الشعار من على جدار مبنى المحافظة فى الليلة ذاتها التى كتب فيها، إلا أن الصهاينة تمادوا فى غيهم وأعادوا كتابة شعارهم فى صباح اليوم التالي، وكلفوا جنودهم بكتابته على جدران منازل العرايشة، وهنا بدلنا خطتنا فبدل من أن نمحو الكلام المكتوب، قمنا بإعادة تشكيل كلمة «لتُمَوت» وبدل ضم التاء وفتح الميم جعلناها «لتَمُوت» بفتح التاء وضم الميم.
واشتد غيظ الصهاينة لهذا الفعل الذى لم يدركوه سريعًا؛ فقد مرت أيام ولم يلاحظوا حذفًا أو محوًا لعباراتهم، وبدأوا يقرأون بعناية، ولأن فيهم يهودا عربا تعلموا اللغة العربية فطنوا لما بدلناه بالتشكيل، وأن العبارة أصبحت ضدهم وليست فى صالحهم، فبدأوا حملات تفتيش وتقصٍّ عمن كتب أو أعاد تشكيل عباراتهم على جدران العريش، لكن الأهالى الصناديد تحملوا الإيذاء والمشاكسات الرذيلة من الصهاينة وهم يتحرون عمن فعل هذا لكن عبثًا، فلم يجبهم أيٌّ من أهالى العريش، فبدأوا هم بأنفسهم يمحون العبارات من على جدران المنازل وبأيديهم.
كان ذلك الأمر رغم بساطته للوهلة الأولى إلا أنه كان ذا أهمية كبري؛ فقد علم الصهاينة أن مقامهم فى سيناء مؤقت، مهما طال ومهما استعدوا بالعتاد والعدة.
واشتاقت أنفسنا لبدء عمليات الثأر من الصهاينة، ومع بداية 69 نفذنا عدة عمليات خطف لجنود الاحتلال الصهيونى بغرض القتل وإخفاء جثة المقتول بعيدًا عن مواطن المنازل على أطراف الصحراء، وكنا ندفن السلاح أيضًا حتى لا نضطر لاستخدامه فينكشف أمرنا، وكنا نزيل آثار الذهاب والإياب؛ فلا يدل على الأمر شيء على الإطلاق، تلك العمليات استشاط منها العدو الصهيوني، ومع تكرارها منعناه من السير يرفل بأمان فى شوارع العريش، بل ولم يعد مغرورًا يسير فرادى بل فى جماعات أو داخل آليات ومجنزرات.
وهنا بدأ التطوير الثانى فى مواجهة العدو الصهيوني؛ فقمنا بتصنيع خوازيق نزرعها ليلًا فى الطرق الجانبية أو على المدقات المحتمل مرور العدو عبرها، ونصبر على صيدنا ساعات وليالى حتى تقع الفريسة فى الفخ، وتعرقل الخوازيق سير العربة فيخرج منها أفرادها، وهنا نبادرهم بالقتل العاجل، ومع تكرار هذه العمليات فطن الصهاينة لوجود فدائيين، وبدأوا حملات تفتيش واسعة بحثًا عنا، وعبثًا ما يفعلون!
الاعتقال الأول
اشتبه الصهاينة فى ثلاثة من المجموعة الفدائية، وكانوا عبد الحميد وسعد وأنا، وتم القبض علينا من منازلنا كلٌّ بمفرده، واشتبهوا فى أننا وراء انتشار المنشورات فى شوارع العريش، ورغم ساعات التحقيق الطويلة والمريرة فى عذابها حتى يستنطقوا أحدًا منا بدليل يثبت شكوكهم، إلا أننا أجمعنا بعدم معرفتنا بالمنشورات، وأننا نقرأها كغيرنا من أهالى العريش ولا نعلم مَن يكتبها أو ينشرها فى طرقات المدينة، وكانت إجاباتنا واحدة تقريبًا، ورغم ذلك تركوا سعد وعبد الحميد إلا إنهم تشككوا فيَّ شخصيًّا، ربما لكون بنيانى الرياضى قد غرس فى عقيدة المحقق احتمالية أن أكون ضمن الجماعة التى تقتل الجنود الصهاينة ليلًا، واستمر التحقيق معى لعدة أيام بعد أن أفرجوا عن سعد وعبد الحميد، ولما طالت مدة غيابى لديهم، توجه والدى وعدد من المشايخ إلى الحاكم العسكرى وطالبوا بالإفراج عني؛ لأنه قد تسرب إليهم من عيوننا أن الصهاينة لم يستطيعوا إثبات أى تهمة عليَّ، وبالتالى فلا ضرورة لبقائى بالمعتقل لدى الصهاينة، وأمام الضغط من جانب مشايخ القبائل تم الإفراج عني.
وفى القادم إن شاء الله حديث عن بدء عمليات التفجير والنسف.