أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا- ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
الحكاية عن بطل من أبناء سيناء هو الشيخ رشاد خليل ابراهيم حجاب، من مواليد الخامس من شهر مايو لعام 1940 بمدينة العريش، التى وُلد بها ويعيش بها الآن، ونال البطل قدرًا من التعليم بمدينة العريش وحصل على دبلوم المعلمين، ثم أكمل فى الحسينية بالشرقية التعليم فوق المتوسط، وحصل على دبلوم الأنشطة والتربية الرياضية.
والداه أبناء عمومة لعائلة آل حجاب، ووالده من مواليد 1901 وتوفى فى 1983 وكان يعمل بالميكانيكا وحفر الآبار وكان يمتلك سيارات نقل، وسعى لتعليم جميع أولاده ولم يفرق فى ذلك بين البنين أو البنات، وللبطل من الإخوة: مصطفي، وفهمي، وأحمد ومن الأخوات هانم، ورسمية، وفهيمة، سعاد، ووداد التى كرمتها الدولة بنوط الامتياز من الدرجة الأولى نظير أعمالها الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني.
البداية مع عدوان 56
يبدأ البطل حكاية معاركه ضد الصهاينة منذ أن كان يافعا يفارق مرحلة الطفولة إلى الفتوة والشباب، فكان فى السادسة عشرة من عمره:» …فى أثناء عدوان 1956 كنت فى السنة الرابعة بالمرحلة الإعدادية بمدرسة الرفايع بالعريش، وفى تلك الأثناء كنا نبكى حال بلدنا وما آلت إليه أحوالنا بعد أن شاهدنا للمرة الأولى العدو الصهيونى يدنس ترابنا الذى كنا نصلى عليه أينما حل ميقات الصلاة، فترابنا كله مقدس.
ولكن لم يمنعنا كوننا صغارا من أن نقوم بما يجب علينا فعله تجاه وطننا وضد اعدائنا، فأجمعت الأمر ومعى صحبة من طلبة مدرسة الرفايع الإعدادية ويقودنا زميلنا محمود نمر محسن وخططنا لتنفيذ حريق بالشونة الإدارية التى تركها جيشنا وخشية من أن يستفيد منها العدو الصهيونى قمنا ليلا بإحراقها، وقدمنا إلى هذا العمل عدة مرات وفى كل مرة كنا نعود لبيوتنا ورائحة غبار الحريق تمسك بملابسنا وكنت أرقب هل سيكتشف والداى أمري؟ وإذا حدث ماذا سيفعلان بي؟ لكننى فى كل مرة كنت أهرب فيها منهما إلى فراشى مباشرة من الباب إلى سريري، واتظاهر بالنوم العميق، وكان والدى يقول لأمى الحمد لله أن وهبنا الله أطفالا كالرجال، لم أكن أعى ما يقوله والدى كثيرا، لكنه هو من دفعنى دفعا يوم الخامس من يونيو للخروج من البيت الى قسم الشرطة لأحصل على سلاح لأقاتل به الصهاينة.
الدرس الثاني…
وكما كان حال كل أهل سيناء كان يوم الخامس من يونيو أشبه بالكابوس، بداية وكنت شابا فتيا، مدرسا بمدرسة أبو طويلة بالشيخ زويد، صدمتنى أخبار اجتياح الصهاينة لرفح والشيخ زويد وهم فى طريقهم للعريش عاصمة سيناء، كانت الأهالى مذعورة، والرأى العام كما الحال العام مضطرب، لكننا جميعا هنا فى الشيخ زويد اتفقنا على المقاومة وعدم الاستسلام لأمر واقع نراه أمام أعيننا، ولحسن الحظ كانت معى البدايات التى أتكيء عليها فيما هو قادم (!) حيث كنت منتدباً بعض الوقت لمدرسة الشهيد بالعريش لتدريب الطلبة على أعمال التعبئة العامة، وكنت أيضا أدرب الشباب بحكم أننى مقرر مجموعات العمل فى منظمة الشباب التى كانت مهمومة بالإعداد النفسى لتحرير فلسطين، ومن خلال تدريبات على أعمال الاحتفالات بالنصر- الذى تأخر بحلول الخامس من يونيو- فقد كانت لدى آليات تجميع الطلبة والشباب، ودار فى ذهنى كيفية البدء فى أعمال المقاومة لتحرير الأرض، هذا الأمل الذى وُلد فى زاوية المشهد الكئيب، الذى ترتع فى مساراته مركبات ومدرعات الصهاينة فى شوارع سيناء، لكن الأمل كان موازيا لحال دام وحزين، وعدت سريعا لبيت والدى فى العريش، لا أعلم سبب سرعتى فى اللجوء له أولاً ربما للأطمئنان على أسرتي، وربما لسبب آخر(!) وبالفعل اكتشفت هذا السبب المحرك ليّ وكان بمثابة البُصلة التى تحدد وجهتي، فبادر والدى سريعًا وقال لى :»… أيه اللى جابك؟» …وأنا أنظر إليه فى صمت صارخ، وأرسل إليه كلام وأحاديث وبكائيات و.. مشاعر متداخلة ومركبة معا فى آن واحد، وهو مازال يكرر استفهامه (!) :»جاى ليه؟!» …تسمرت فى موقفى أمام باب البيت المفتوح بيدى اليسرى التى مازالت ممسكة بقبضتها على جذع الباب لأمنع تسرب أصوات الجنازير من أن تدخل إلى مسامع البيت، حتى لا يتسرب معها الخوف أو الذعر لوالداي، لكننى لم أستطع إبعاد أسرتى التى أخشى عليها عن صدمة الواقع وحاله، وما كان من والدى إلا أن أمرنى وهو يصرخ بصوت كما نفير الجهاد: «روح بسرعة إلى قسم ثانى العريش وشوف هناك سلاح خده وقاتل الصهاينة، ما ترجعش إلا وإنت عامل إللى عليك، بلدنا محتاجة كل إيد قادرة تشيل السلاح، وكل عين مفتوحة تنشن على أعدائها
مش عايزة عين تبكي!…» ولم أحرك قدماً تجاه الداخل بل على الفور تلقيت الأمر من والدى وأسرعت ناحية الشارع متوجها لقسم ثانى العريش، لم أشعر كم من الخطوات قطعتها وأنا طائرا إلى وجهتى لكن لم يكن – تقريبا- هناك زمن، وظهر أمامى فجأة زميلى توفيق المالح وعليه غبار الحرب ويبدو أنه أثر معركة احتدمت بينه وبين أحد تجمعات الصهاينة المتفرقة فى طرقات العريش، وتطايرت فوق رءوسنا رصاصات الصهاينة من كل اتجاه، لكننى أصبحت فعليا فى عمق معركة ضارية مع الصهاينة وظللت أنا وزميلى توفيق المالح نتبادل معهم الرصاصات وجميعنا نستتر خلف الكثبان الرميلة التى نعرفها جيدا – وهى أيضا تعرفنا – بشارع العريش الذى لم يكن كحاله الآن بل كان أقرب إلى الدرب أو المدق منه إلى الطريق، ولاحظت تصاعد ألسنة اللهب من خلف مبنى محطة قطار العريش فزحفت إلى هناك مع توفيق المالح مستترين بثنايات الأرض الرملية، حتى وجدنا عددا من شباب العريش يحاولون إطفاء قطار العريش الذى أحرقه الصهاينة عند هجومه على العريش،… ومضى اليوم الأول ثقيلا، طويلا، شاقا، وقد ترك فى عقلى وقلبى أمورا عدةأقسمت مع نفسى أمام ربى وأمام سيناء ألا يحول بين تحقيقها إلا موتى وهلاك روحي.
فى القادم ان شاء الله تشكيل مجموعة فدائيين من شباب العريش لمقاومة العدو الصهيوني.