كان يستمع لأم كلثوم وعبدالوهاب ليتعلم المقامات التى كانت سبب رفضه 9 مرات فى الإذاعة
الشيخ محمد محمود الطبلاوى أحد قراء مصر النابغين فى جيلها الذهبى صاحب الصوت الرخيم..والنَفَس الطويل.. عشقه الملايين داخل مصر وخارجها .. ولد فى 14 نوفمبر عام 1934 وعاش فى حى ميت عقبة وقد وهَبَهُ والده للقرآن وألحقه بالكُتاب فاستطاع أن يختم القرآن فى التاسعة من عمره.. ثم التحق بمعهد القراءات واحترف مهنة القراءة فى الثانية عشرة من عمره، وأصبح صاحب مَدْرسة خاصة فى القراءة، ولم يُقلد أحد من مشاهير القراء.. وبزغ نجمه وتقلد العديد من المناصب وأصبح نقيباً للقراء، وأطلق عليه موسيقار الأجيار لقب «صاحب النغمة المستحيلة»..توفى 5 مايو 2020 الموافق 12 رمضان 1441 عن عمر يناهز 86 عاماً قضاها فى خدمة القرآن الكريم.
«الجمهورية» أجرت حوارا مع ابنته هيام الطبلاوى رئيس مجلس إدارة مؤسسة الطبلاوى للأعمال الخيرية لتحكى لنا كثيرا من أسرار والدها عن البدايات والتفوق والازدهار.
>> كيف كانت بدايات الشيخ الطبلاوى فى عالم قرّاءة القرآن؟
> رأى والده رؤية قبل ولادته بأن الله سوف يرزقه ولد اسمه محمد وسوف يكون من حَفظة كتاب الله، وبالفعل تحققت رؤيته بميلاد الشيخ الطبلاوى فى 14 نوفمبر 1934 فى «ميت عقبة» وقد وهَبَه والده للقرآن وفى سن السادسة ألحقه بـِكتَّاب الشيخ غنيم، وكان يحث الشيخ دائماً على الاهتمام به ويدفع له ضعف الأجر واستطاع أن يحفظ القرآن كاملاً فى سن ٩ سنوات.
>> من الذى اكتشف موهبته وجمال صوته؟
> شيخ الكتّاب الشيخ غنيم حيث تنبأ بأنه سوف يكون ذا شأن عظيم لما يتميز به من حنجرة ذهبية وصوت يُبْهِر كل مستمع إليه، وفى سن الثانية عشرة بدأ فى إحياء الليالى بتلاوة القرآن وسط كبار القراء ليحترف هذه المهنة وكان أول أجر له 50 قرشاً وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، ثم التحق بمعهد القراءات الذى يعادل الليسانس ليثقل موهبته الفطرية بالدراسة.
>> ما أهم السمات الشخصية التى ميزت الشيخ الطبلاوي؟
> كان يتسم بالطيبة والحنان مع كل من حوله ولم يكن يفرق بين الذكور والإناث من أبنائه فنحن كنا 10 أبناء 5 ذكور و5 إناث وكان يعاملنا جميعاً بنفس الطريقة، ونظراً لانشغاله الدائم بعمله كان حريصاً على أن يجتمع معنا يوم الجمعة من كل أسبوع وكنا ننتظر هذا الاجتماع بفارغ الصبر، حيث يطرح الأسئلة الدينية، ويمنح جوائز مالية قيمة لمن يعرف الإجابة الصحيحة، ورغم حنانه الشديد إلا أنه كان يتحول لشخص آخر عندما يتعلق الأمر بحفظ القرآن وأحكامه، فلا يتهاون معنا بل كان يعاقبنا على عدم إتقان الحفظ، أما خارج المنزل فكان محباً لكل الناس يعاون الجميع ويسعى لقضاء حوائجهم، وكان يتسم بالمودة والترابط والمرح بين أصدقائه من القراء خاصة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الذى كان يزورنا دائماً ويفرق الحلوى على الأطفال.
>> وما هى الميزة التى تميز بها الشيخ الطبلاوى لتعلو مكانته بين القرّاء؟
> بعد موهبته الربانية وصوته الجميل ونفسه الطويل كان يتميز بالثقة والاعتزاز بالنفس والتواضع فى الوقت ذاته، وكان مستمعاً جيدا لكبار القراء، أمثال: الشيخ محمد رفعت، إلا انه كان صاحب مَدْرسة خاصة به، فلم يقلد أحدا فى يوم من الأيام، وكان أداؤه الصوتى فى التلاوة يفسر معنى الآيات ويشرحها.
>> من كان مثله الأعلى من المقرئين؟
> كان يحب الاستماع للشيخ محمد رفعت، والشيخ الحصري، أما الذى كان يلازمه دائماً فى مجالسه وبكى كثيراً يوم وفاته هو الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وحزن عليه حزناً شديداً، وكانت وفاته عظة كبيرة له بأن الإنسان مهما بلغ فى الدنيا من شهرة ومكانة وجاه فإن نهايته القبر، لذلك كان يزور مقابر العائلة بالأباجية كثيراً.
>> كيف كانت علاقته بزملاء المهنة من شباب القراء؟
> كان مُعلماً وقدوةً وأباً لهم يستمع لأصواتهم ويقدم لهم النصيحة والمشورة بتعهد القرآن يومياً والاستماع الجيد والتدريب المستمر وعدم تقليد طريقة أحد من القراء، وكان يشجع من يجد لديه الجرأة على اقتحام هذا المجال الصعب.
>> ما هى أهم النصائح التى كان يوجهها لأبنائه؟
> كان ينصحنا دائما بالتواضع فى علاقاتنا مع الآخرين، وكان يخشى علينا من الغرور عندما نرى تجمعات محبيه وتجمهرهم حوله ورغبتهم فى السلام عليه، كما كان ينصحنا أيضاً بإكرام الضيف، وإطعام الطعام، وإخراج الصدقات، وعدم رد السائل، فكان منزلنا عامراً بالضيوف دائما.
>> وهل كان يلزم مراجعة ورد يومى من القرآن؟
> كان يراجع 5 أجزاء من القرآن يومياً ليختم القرآن مرة على الأقل كل أسبوع وكان ينصحنا بذلك.
>> كيف كان يحافظ على موهبته وعذوبة صوته؟
> كان يبتعد عن أى شيء يؤثر على صوته أو طول نفسه أو يضر صحته بصفة عامة فكان بعيد كل البعد عن التدخين وكان يتناول الطعام الصحى والخضراوات والمشروبات الطبيعية ويقوم بعمل تدريبات للنفس والصوت يوميا.
>> هل بين أبنائه وأحفاده وارث موهبته؟
> ورث موهبته أخى محمد الذى حفظ القرآن على يديه وأصبح قارئا، أما الأحفاد فلم يرث عنه موهبته إلا ابنتى آية وائل التى اشتهرت بآية الطبلاوي، فقد حفظت منه القرآن وكانت تحب أن تقلده وورثت أداؤه وإحساسه وجمال صوته ثم اتجهت بعد ذلك للإنشاد الديني، أما أنا فقد حفظت القرآن وأحكامه ومنحنى «السند» وهو إجازة شرعية بأهليتى لتحفيظ القرآن.
>> هل كانت له أعمال فى مجال الإنشاد الديني؟
> نعم نصحه أصدقاؤه بالاتجاه إلى الإنشاد الذى يلقى إعجاب واهتمام الكثيرين وبالفعل سجل بعض الأعمال ولكنها لم تكن تذاع باستمرار إلا أنه لم يكمل فى هذا المجال لأن الإنشاد تصاحبه الموسيقى ورغم اختلاف الآراء فى تحريمها وقتها إلا أنه آثر أن يبتعد عن الشبهات.
>> وماذا عن تجربة قراءته للقرآن فى جوف الكعبة؟
> أكرمه الله أثناء أداء العمرة بقراءة بعض آيات القرآن داخل الكعبة المشرفة، وظل والدى يذكر أن هذه منحة إلهية عظيمة، وأجمل لحظات مرت به وأجمل إحساس راوده طوال حياته وأنه كان يشم رائحة الجنة فى هذه اللحظات.
>> لماذا كان يطالب دائماً بعودة «الكُتّاب»؟
> لأن «الكُتَاَّب» هو الأساس فى الحفظ السليم للقرآن الكريم بأحكامه خاصة للأطفال وقد شجعنى لإنشاء دار الطبلاوى لتحفيظ القرآن فى منزلنا بطريقة «الكُتّاب» وكان يتابعها بنفسه ثم تحولت بعد ذلك إلى جمعية خيرية.
>> كيف كانت علاقته بأهل الفن والغناء؟
> كان والدى يستمع إلى أغانى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم ليعرف النغمات والمطالع والقفلات التى رُفِض بسببها فى الإذاعة لتسع سنوات متتالية، لأنه كان لا يعرف المقامات الموسيقية، وكان عبدالوهاب يحب والدى وأطلق عليه لقب «صاحب النغمة المستحيلة» التى لم يستطع أحد الوصول إليها وذلك بسبب نفسه الطويل فقد كان الوحيد الذى يستطيع قراءة سورة الفاتحة كاملة بأكثر من نغمة فى نفس واحد، وقد دعاه لزيارته إلا ان والدى تهرب لعلمه عن شخصية عبدالوهاب أنه «موسوس» على حد قوله ووالدى كان يتعامل بفطرته إلى أن قابله فى باريس وكانت بصحبته الفنانة وردة.
>> هل كانت تربطه علاقة صداقة بالرئيس السادات؟
> نعم كان الرئيس السادات يحبه ويحب الاستماع إلى تلاوته، وكان يدعوه دائما لإحياء الليالى وحضور الندوات والاجتماعات والمناسبات الهامة وكان والدى يحبه حباً شديداً.
>> ما أهم تسجيلات الشيخ الطبلاوي؟
> سجل المصحف المرتل بالقراءات العشر وأهداها أخى إبراهيم للإذاعة المصرية مع بعض التسجيلات النادرة للحفلات تحقيقاً لرغبة والدى وحفاظاً على تراثه.
>> ما الصعوبات التى واجهت الشيخ الطبلاوى فى حياته العملية؟
> والدى كان له مدرسته الخاصة وينأى بنفسه عن الدخول فى تنافس مع الآخرين إلا أن التنافس فى العمل كان يعرضه لبعض المواقف السيئة، ولعل أشهرها القهوة المسمومة التى كاد أن يشربها فى أحد المآتم ولكن لطف الله وكرمه أنقذه، وللأسف شربها عامل الإضاءة ونقل إلى المستشفى وتم إسعافه وهذا الموقف ترك أثراً كبيراً فى والدي.
>> كان لوالدك رأى فى حكم الإخوان بعد الثورة؟
> كان يرفض تداخل الدين فى السياسة وكان يرى أنه لا علاقة لرجال الدين بالسياسة وحكم الدولة وأن جماعة الإخوان لهم أطماع الوصول إلى السلطة ورأى رؤية فى منامه أن حكمهم لن يطول، وكان يتابع الأحداث بشدة فى هذه الفترة، وأبدى سعادته بقيام ثورة يونيو عام 2013، ووصفها بأنها أنقذت البلاد والعباد، وكان والدى يحب الرئيس عبدالفتاح السيسى خاصة أن الرئيس السيسى كان دائم السؤال والاطمئنان على والدى بعدما علم بأزمته الصحية.
>> هل ساهم والدك فى إنشاء مؤسسة الطبلاوى الخيرية؟
> بعد ثورة يناير 2011 كان يشترط فيمن ينشئ داراً لتحفيظ القرآن أن يكون من خريجى الأزهر وهو ما كان يهدد الدار بالغلق لأننى لست من خريجى الأزهر فطلبت مساعدته ووجهنى بالذهاب لمقابلة وزير الاوقاف الذى اقترح على تحويل الدار مؤسسة خيرية تكون متخصصة فى تحفيظ القرآن ضمن أنشطتها، وتوجهت بطلبى لوزارة التضامن، وتم إنشاء مؤسسة الطبلاوى للأعمال الخيرية التى اتسعت أنشطتها لكفالة الايتام والأرامل وتزويج الفتيات ومنح المساعدات المالية والطبية شهرياً وتحفيظ القرآن وكان والدى أكبر داعم وسند للمؤسسة وتعلمت منه الكثير.
>> مشروع بناء مسجد الطبلاوى بالشيخ زايد.. هل كان حلم يراوده؟
> والدى بنى مسجدا صغيرا بالهرم وكان مسئولا عنه ولكننى كنت أحلم أن تعمل المؤسسة فى إطار أكبر تحت رعاية الأوقاف من خلال المسجد وقدمت للحصول على قطعة أرض يمنطقه الشيخ زايد لإقامة المسجد الذى سوف يخدم 1300 مصلى وتم وضع الأساسات ونحلم بأن يتم استكمال البناء من خلال التبرعات.
>> هل كان يعانى من المرض قبل وفاته؟
> الحمد لله لم يعانى من المرض قبل وفاته وتوفاه الله وفاة طبيعية إلا أنه عانى فى فترة سابقة من السرطان ونصحنا الطبيب بتناوله دواء لتحجيم الورم نظرا لصعوبة تعرضه للإشعاع او العلاج الكيماوى لكِبَر سنه، وسافر إلى مسقط رأسه المنوفية التى يعشقها وسط الأراضى الزراعية للراحة والاستشفاء وبعد شهرين أعدنا الفحوصات لنفاجأ بمنحة إلهية جديدة جعلت الأطباء فى حيرة من أمرهم حيث شفاه الله من المرض تماماً، وبعد وفاة أمى سافر للقرية وأقام بها لفترة حتى توفاه الله حزناً عليها فى 5 مايو 2020 فى شهر رمضان 1441 وكان وقت انتشار جائحة كورونا والمساجد لا تفتح حتى لصلاة الجنازة، وصلينا عليه صلاة الجنازة مرتين مرة فى الشارع ومرة أخرى عند مقابر العائلة بمنطقة الأباجية وسط المئات من محبيه وأقاربه ولا أنسى دور رجال الامن فى هذا اليوم الحزين وتعاونهم معنا تقديراً لمسيرة الشيخ رحمه الله.