حالة من حالات الفرح الثقافى والأكاديمى شهدتها كلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة قبل أيام بمناقشة رسالة للدكتوراه فى الأنثروبولوجيا الثقافية للشاعر والباحث مسعود شومان التى حصل بها على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها وتبادلها مع الجامعات والمراكز البحثية فى فلسفة الدراسات الأفريقية.. الرسالة بعنوان «الدلالات الرمزية فى فنون الفرجة الكناوية المغربية.. دراسة ميدانية فى الأنثروبولوجيا الثقافية».
وفى البداية ماذا تعنى الأنثروبولوجيا الثقافية؟.. وحسب الباحث هى أحد المجالات الرئيسية فى علم الأنثروبولوجيا التى تهتم بالثقافة، سواء كانت ثقافة أبناء العصر الحجرى أو أبناء المجتمعات الحضرية المعاصرة، يعنى تهتم بدراسة كل جوانب الثقافة الإنسانية كاللغة، والدين، والعادات والتقاليد، والقيم.. لكن ما القضايا التى تثيرها هذه الرسالة العلمية المهمة.. الاجابة فى هذا الحوار:
> ماذا تعنى ظاهرة «كناوة» موضوع الدكتوراه؟
>> من الظواهر الثقافية والفنية المركبة بتعدد عناصرها وامتدادها فى التاريخ والجغرافيا، وعدم ثباتها عند زمن معين، وتمارس صيرورتها محاطة بطقوس الإشارات والتحولات عبر الرقصات التى تمنح الجسد أبعاداً ثقافية وفنية ليست مقطوعة الصلة بالأبعاد الاجتماعية والتاريخية.
> وماذا تعنى كلمة «كناوة»؟
>> لم تستقر الدراسات على معنى محدد، والاسم الذى صار علامة دالة على جماعة تمارس الفن بشكل معين ووفقاً لطقوس حققت استقرارا حتى عرفت الظاهرة وأخذت أبعادها وحققت انتشارها على مدى المملكة المغربية.
> هل كناوة قاصرة على المغرب فقط؟
>> ليست قاصرة على المغرب، لكنها موجودة فى المغرب باسم «كناوة «، وفى الجزائر باسم «الديوان»، وفى تونس باسم «استطمبالي»، أو «البلاليين»، وفى ليبيا باسم «ماكلي» وعدد من الدول الأفريقية، وقد تنوعت المصادر والإرجاعات بين مصادر مكانية، وأخرى لغوية، وثالثة شخصية.
> من أين جاءت؟
>> أرجع البعض المفردة إلى «إحدى القبائل فى دولة مالي» التى يرجح أنها موطن كناوة الأصلي، وتدعى «الكانكا»، فى حين يرى آخرون أن الأصل فى التسمية يعود إلى جذورهم الأفريقية ومنها منطقة غينيا.
> هذا يعنى أن «كناوة» ظاهرة أنثروبولوجية؟
>> نعم وحافلة بالمعتقدات والعادات والموسيقى والرقص وتتسم بدلالاتها الرمزية ولا تسلم نفسها للباحث بسهولة!
> كيف تعاملت معها وأنت الغريب عن بيئتها بل وعن الملكة المغربية كلها؟
>> سافرت إلى المغرب مرتين وأقمت مدداً طويلة وساعدنى بعض الأشقاء الشعراء والأدباء، فأنا لست ابناً للمكان، فخلف كل عناصرها دلالات لا تقنع بالمباشرة، بل تحتاج لفك شفراتها.
> وما هى هذه الإشارات؟
>> إشارات رمزية تتصل بالمفردات المؤداة والرقصات والموسيقى والإيقاعات، والزى والألوان وما تطرحه من رموز.
> وكيف رصدت الظاهرة؟
>> محاطة بالأسرار التى تدفع لدراستها بعيداً عن النظرة المنطلقة من رؤى دينية أو عوالم السحر والشعوذة، والتخلف الذى يبعدها خارج أطرها الأنثروبولوجية.
> والبعض يحصرها طبعاً فى الغرائبى أو العجائبي؟
>> يصفونها خارج الأطر الزمانية والمكانية، وكأنهم مجموعة من الأفراد الناتئين على اللحظة التاريخية المعيشة، لذا يأتى الاهتمام بهم فى سياقات فولكلورية احتفالية لتقديمهم للآخر كالقطع المتحفية الغريبة التى تسر رؤيتها الأعين.
> لكن البعض يتهم مظاهرها بالشعوذة والخروج عن الدين؟
>> نعم، لعدم التعمق فى البناء الطقوسى للاحتفالية الكناوية، وما تتضمنه من جوانب شديدة الثراء أنثروبولوجيا.
> كيف؟
>> لأن الاحتفالية الكناوية ظاهرة ثقافية وفنية لها بناؤها المتماسك، الفاعل فى التراث الإنسانى الذى يعيد تمثل تراث التمرد على العبودية، والمعاناة والألم عبر تجليها التاريخى لنرى عناصرها المتعددة من عادات ومعتقدات وتقاليد وممارسات وفنون قولية وموسيقية، وصناعات حاضرة فى فضاءات الفنون الشعبية.
> كيف؟
>> لاتزال طقوس كناوة الاحتفالية تُشَكّل مجالًا ثريًا للدراسات الأنثروبولوجية، والفنية، بدلاً من الدراسات الأسيرة لمجموعة من الرؤى السطحية.
> لندخل فى قلب الليلة الكناوية لتنقلنا إلى هذه الجماعة فى المغرب الشقيق؟
>> تتكون من ثلاثة أقسام هي: العادة والفراجة/»لِفْرَاجَه أو أولاد بمبارا» والملوك/ «لِمْلُوك».
> وما المقصد العلمى لقراءة هذه الظاهرة أنثروبولوجيا؟
>> تفكيكها لنعاين كيف تشكلت تاريخياً، وما الذى وصلت إليه كونها جسداً له بنيانه السحرى كجزء أصيل من المعتقد الذى تستظل به الظاهرة، فهناك ما يمكن تسميته بـ «الروح الرمزية» للفن.
> ماذا يعنى ذلك؟
>> بما يتضمنه الجسد من موسيقى أصلها فى الآلات الموسيقية منها القراقب – الطبل – الكنبرى التى تشع بالدلالات الرمزية مع حضور كل ألة فى الممارسة الكناوية.
> وماذا تشكل الآلة فى هذه الثقافة؟
>> ليست مجرد أدوات للعزف، لكنها جزء من البناء الطقوسي، فضلا عن مراحل صناعتها كمجموعة من الحرف التراثية المرتبطة بكناوة، إضافة إلى الفنون القولية التى ترتبط بعدد من المعتقدات، ومرورها من مرحلة العبودية والقهر وصولاً لتحويل هذه المظاهر لتصبح فناً واسع الانتشار ومتنفساً لتفريغ الألم والتعبير عن استقلال الجسد عبر الرقصات التى يقدمها أفراد كناوة/ الأخوية الكناوية.
> وما هى مظاهر هذه الطقوس؟
>> البداية من «المعلم/ «لِمْعَلِّم» مرورا بأفراد الفرقة الكناوية، أو ما يطلق عليهم «الكويواتوليس انتهاء بـ»المقدمة»، أو «الشوافة»/ العرافة، ولا يقتصر الأمر على الرقص الجمالى الذى يعتمد نظامه وحركاته وترتيباته فى الجزءين الأولين من الاحتفالية من رقص الكويوات، لكنه يمتد لمرحلة الجذبة/ «الجدبة – القسم المسمى بالملوك – التى يمارسها المريدون، أو المجذوبون/ «المجدوبون»/ الجدَّابة، وهم من امتلكهم الجن بأنواعه.
> لندخل إلى أبطال الكناوية وممارسى الظاهرة والبداية تكون مع المعلم؟
>> المعلم وينطقونها لِمْعَلِم، هو رئيس الفرقة، أى بمثابة المايسترو الذى يسيّر الربيرتوار الموسيقى الذى يتم تقديمه منذ بداية الليلة إلى نهايتها، وهو العازف على آلة الكنبري، وهو لا يصل إلى مرتبة المعلم إلا بعد أن يكون قد مارس لسنوات دور الكويو، ليمر بمرحلة «جناح الطير»، أى مساعد المعلم، وهو أيضا حامل الطبل الأساسى خلال مرحلة العادة التى يشارك فى موسيقاها طبلان؛ الأول يحمله المعلم، والثانى يحمله أحد الكويوات المتميزين من خلال تقييم المعلم، على أن يكون تميزه واضحاً عن باقى الكويوات، ويقتصر هذا الأخير فى نقره الطبل على ضربة واحدة بينما يقوم المعلم بتنويع النقرات والمعلم، أو «لِمْعَلِم» أكثر أعضاء فرقته خبرة فنية، وله القدرة على العزف على كل الآلات المستخدمة فى الاحتفالية الكناوية،، والَمْعَلَّمْ يرضخ لرغبات الجدّاب فى التركيز على تصعيد الإيقاع فى محلة من المحلات حتى يحس بالاكتفاء والوصول للحد الذى يرضى الجن الذى يسكنه والذى ما ينتهى غالباً إما بإشارة من الجدّاب أو بالإغماء الذى يصيب الجسد.
> ومن جناح الطير؟
>> جناح الطير يشير رمزياً إلى قدرات صاحبه الفنية، وقدرته على مساعدة المعلم بوصفه جناحاً له، والإشارة هنا تعنى أن المعلم لا يستطيع الطيران إلا بمساعدة جناحه، فاصطلاح «جناح الطير»، أى مساعد المعلم، لا تطلق إلا على المتميز من الكويوات، أى القراقبية ممن يقومون بالنقر على القرقابة أو الطبل، حيث يسند له المعلم دور النقر على الطبل إلى جانبه فى مرحلة (العادة) التى تتطلب وجود طبلين، كما أنه يكون دائماً بجانب المعلم أثناء المرحلة الأخيرة من الليلة (الملوك) إذ يسند له دور الغناء مكتفياً فقط بالعزف على الكنبري، فضلاً عن ذلك تدريبه ليصبح معلماً فى سلسلة التراتب التى يصعد فيها جناح الطير ليكون قائدا للفرقة الكناوية.
> ومن الكويو؟
>> أحد أفراد فرقة كناوة ويطلق البعض عليهم اسم أولاد بمبارا، والكويو يقوم بالعزف على القراقب والرقص المنتظم المحسوب بدقة على المستويين الفردى والجماعى فى الجزء الخاص بالفراجة متوافقاً مع عزف الكنبرى والقراقب، ورتبة الكويو لا يحصل عليها إلا من يتقن العزف على القراقب، فضلاً عن إجادة الرقص بدقة متناهية ويعرف تقاليد الدخول والخروج للرقصات.
> ومن الفاتحي؟
>> الفواتحي، أو الفاتحي، هو من يفتتح الليلة، وهو رتبة من مراتب كناوة، فالفواتحى أحد أعضاء فرقة كناوة، ومهمته الأساسية القيام بالدعاء لأهل المنزل والحضور، ومن دعواته الأثيرة: «اللهم اجمع المرض كله وألقه فى البحر»، «اللهم اجعلها بعيدة عن حبس الوسادة، أو مرتهنة بوسادتها»، «اللهم اجعل دخولنا عليها سبباً لشفائها»، ويوجه دعاءه للذكر قائلا: اللهم اجعله سلطاناً وسبعاً أينما يكون، كما يقوم بدور الحفاظ على الجذاب أو الجذابة من السقوط، أو الارتطام بالأرض، أو بالحوائط، فيمسك الجذاب بحزام من الخلف لحمايته، والحفاظ على توازنه خشية السقوط.
> ومن هي؟ الطلاَّعة أو العِرِيفة؟
>> هى من تعد الليلة وتدعو لانعقادها، ويطلق عليها المغاربة، الطلاَّعة أو العِرِيفة، وتستمد الطلاعة اسمها ومعناها من كونها المعنية بطلوع الليلة بشكل جيد، أى بخروجها وتنفيذها بشكل يرضى المشاركين فيها.
وتلبس صاحبة الليلة «الطَّلّاعة» لباساً عادياً فى الغالب، لكنها تفضل أن يكون لباساً أبيض اللون، ويكون مكانها أمام الرَّحْبة فى اتجاه المعلم ابتداء من الفتوح إلى نهاية «الليلة»، مع ملاحظة أنها وكل الجذابين والجذابات يغطون وجوههم ورءوسهم بقماش باللون الذى يرمز إليه المَلْكْ حسب الترتيب، ففى «الفتوح» مثلا تضع الطلاعة، وكل جذاب أو جذابة على الرأس ثوباً أبيض، ونفس اللون فى محلة الشرفا، والطلاَّعة «فى البداية تضع المقدمة صينية أمام المعلم بها بخور متنوع وأشياء أخري. ثم تبدأ بإلقاء قطع قماشية مختلفة الألوان ترمز إلى ملوك الجن، وعلى إيقاع الموسيقى ومراحلها يؤمر المريدون بارتداء لون مــن ألوان القماش، مثلا اللون الأسود، فصاحبه هو الملك «سيدى ميمون» ولاله «ميمونة»، وهكذا تتوالى الألوان.
> ماذا تقصد بالمرأة الشوافة؟
>> هى التى تقوم بالتشوف (التكهن بما سيقع للشخص)، وقد تكون صاحبة الليلة ومنظمتها حيث تعتقد بإقامتها لحفل الليلة الكناوية أن الأرواح وبعض الجن الذين سيتم المناداة على أرواحهم سيساعدونها فى التكهن وهى مساعدة روحية (شوافة أو عرافة) للمعلم، تتلخص مهمتها فى تيسير سبل التواصل مع ملوك الجن فى «المحلات» الخاصة بكل واحد منهم أو منهن، والعرافات تتكون عبر تاريخ طويل من الممارسة.
> ما أصناف العرافين؟
>> صنف العرافون فى المغرب إلى ثلاثة أصناف، الأول: هم من يتعاطون خط الرمل فيرسمون عليه أشكالاً يعرفون من خلالها الطالع، والنوع الثانى الذين يجعلون الماء فى قدر لماع ويرمون فيه نقطة زيت فيصير شفافاً، ويرون فيه كما يرون فى المرآة جماعة من الشياطين القادمين بعضهم خلف بعض كأنهم كتائب جيش تعسكر وتضرب الخيام، ويسلك بعضهم طريق البحر بينما يسلك بعضهم طريق البر وعندما يرى العراف أنهم قد استراحوا يطلب منهم ما يود معرفته.
> يعنى أيه الصداقة مع الشياطين؟
>> مجموعة من العرافات الذين يوهمن العامة أنهن يرتبطن بصداقة مع شياطين من أنواع مختلفة وهن يسمين الشياطين بالحمر وبعضهم بالشياطين البيض أو السود وعندما يطلب منهن أن يتنبأن بشيء من الأشياء يتطيبن بعطور مختلفة الروائح، فيدخل إليهن الشيطان الذى دعونه حسب زعمهن، ويغيرن حينئذ أصواتهن، ليوهمن المتكلم بفهمهن والشخص الذى أتى بشيء يريد أن يعرفه سواء كان رجلا أو امرأة يطلب ذلك من الروحانى بشيء من الاعتبار والضراعة فإذا حصل على الجواب ترك هدية للشيطان وذهب إلى حال سبيله، لكن الناس الذين يتمتعون بالاستقامة فضلا عن العلم والخبرة يسمون هؤلاء النساء مساحقات وهو معنى «فريكاتريس» باللاتينية لأنهن يمارسن تلك العادة الشنيعة وتساحق إحداهن الأخري، الأمر الذى لا استطيع التعبير عنه بشكل أكثر حشمة فإذا كانت امرأة جميلة من بين اللواتى أتين لاستشارتهن عشقنها كما يعشق شاب فتاة وطلبن منها كأن الشيطان هو الذى يتكلم، قبلات غرامية فى مقابل الثمن وتقبل المرأة فى غالب الأحيان ظناً منها أنها ترضى الروحانى بذلك وتطلب كثير من النساء اللاتى ينشرحن لهذه اللعبة من العرافات الدخول فى طائفتهن فيتظاهرن بالمرض ويستدعين إحداهن، وكثيرا ما يقوم الزوج الأبله بهذه المهمة، هناك يعبرن عن رغبتهن للعرافة فتخبر الزوج أن الشيطان قد دخل لجسم امرأته، وإذا كان حريصاً على صحة امرأته فلابد أن يسمح لها بالانتساب إلى طائفة العرافات والعمل معهن بحرية، فيصدق الزوج الغبى بذلك ويقبل ويزيد من غباوته أنه يصنع وليمة فخيمة لجميع العرافات، وبعد تناول الطعام تقوم كل واحدة منهن إلى الرقص، ويحتفلن على أنغام جوق من الزنوج (كناوة)، ثم يترك الرجل زوجته تدخل للمغامرة، لكن هناك من الأزواج من يخرجون الأرواح من أجساد نسائهم بضربات عصى قوية، ومن يتظاهرن بأنهم أيضا قد أصابهم مس من الشيطان فيخدعون العرافات مثلما خدعن نساءهم.
> وماذا تعنى الجذبة؟
>> مجموعة من الحركات التى تدخل بالمجذوب / الجذاب فى حالة حركة دائبة وغياب عن كل ما هو أرضي، وهى تتماثل مع رقصات الزار وحركة الذكيرة، حيث يتم تشغيل الحواس، فالقدمين واليدين تتحرك جميعها مع باقى الجسد فى حركة أقرب للانتظام، والأنف تشم روائح البخور والعين تدور مع ألوان الروح التى يتم استحضارها، واللسان يتذوق حلاوة تغييب الألم بعد شرب الماء حين يفيق الجذاب.
وللجذبة مظاهرها بداية من الدخول فى الحالة، وتصاعدها، والدخول فى حركات سريعة تؤدى إلى مرحلة النشوة، ومنها حركات عنيفة تصل حد الإغماء والسقوط على الأرض، ولكل ملك جذبته – رقة وعنفاً – بطأ وسرعة، فمن الملوك المثيرة فى الليلة الكناوية نجد «لغمامي» فى محلة الكُحُل، بعد أن يتم تبخير الجذاب أو الجذابة بالجاوى الأسود يتهيأ وسط الرحبة ويناوله مقدم الرحبة سكينين فيشرع الجذاب فى تحريكهما بحركات بطيئة فى البداية، ثم يضع واحدا على الخد الأيمن والآخر على خده الأيسر ويحركهما فى حركات شبه دائرية، وقبل أن يصل إلى نهاية الجذبة يشرع فى ضرب ذراعه بأحد السكينين حتى يسيل دمه ويصل إلى مرحلة التخشب، وفى «على يا علي»؛ ملك من محلة الحُمُر، حيث يرقص فيها رجل بعد أن يشد وثاقه من اليدين والرجلين، حيث تصبح طريقة جذبته عبارة قفز متواصل، والجذاب الماهر هو الذى يعرف كيف يحافظ على توازنه أثناء الرقص أو الجذبة.
> وهل يظل البعد الجمالى هنا هو الغالب؟
>> لا.. تأتى رقصاتهم أو لغة أجسادهم هنا بعيدا عن البعد الجمالى أو الاحتفالى لتشتبك مع المعتقدات السحرية، وما فيها من أنواع للجن/ الملوك/ الأرواح التى تنتمى إلى جنس الذكور، أو الجن من الإناث الذى يطلقون عليه العيالات حيث يتسم كل واحد/ واحدة منهم بصفات وأنواع من الملابس، بل وأعراض تدل على تلبسه بالمريدين فى فضاء الجذبة، أو بنوع محدد منهم، الأمر الذى يقتضى أنواعاً من الممارسات السحرية والموسيقية والحركية.
> وهل يرتبط كل جن فى هذا المعتقد بطقوس معينة؟
>> نعم يتعلق بكل جن أنواع من البخور التى تتنوع بتنوع الملوك، كما يرتبط بهذه الطقوس مجموعة من الأداءات الغنائية التى يصحبها جملة من الفنون القولية، فضلا عن مجموعة من الرقصات التى تتنوع بتنوع أقسام الاحتفالية الكناوية، ولهذه الرقصات إشاراتها الأسطورية التى تطرح عدداً من الدلالات الرمزية.
> تعرضت لمشاكل بحثية ممتلئة بالعراقيل كيف تغلبت عليها؟
>> تأتى فى المقدمة صعوبة السفر، وعدم الإلمام بأماكن انتشار الظاهرة فى المدن المغربية، وما الذى يحتاجه من وقت لجمع مادته، وما التكلفة المالية اللازمة لجمع المادة العلمية.
> وكيف تغلبت على صعوبة اللغة؟
>> كانت أهم الصعوبات التى واجهتها هى صعوبة تلقى اللغة، خاصة أن اللغة الدارجة المغربية يشتبك بداخلها مجموعة من المصادر اللغوية، منها: العربية – الأمازيغية – اللهجات الأفريقية – الفرنسية – البرتغالية، فضلا عن طريقة النطق الخاصة التى لا خبرة لى بها، وتزداد الصعوبة مع ظاهرة معظم نصوصها مغناة، حيث تتداخل اللغة مع الموسيقي، وما تحمله مفردات اللغة من ظلال بيئية ومحمولات ثقافية تختلف عما تحمله المفردة من معان يصعب فهمها، وفهم تراكيبها، واشتقاقاتها، ودلالاتها، ولولا انتشار العامية المصرية على ألسنة المغاربة لوصلت لطريق مسدود!
> وكيف تغلبت على صعوبة التدوين؟
>> أى لغة عبارة عن مجموعة من الأصوات ومجموعة من الرموز الكتابية الدالة على هذه الأصوات، لكن لغة النصوص المغناة لا تسلم نفسها للمتلقى خاصة إذا كان غريباً عن مجتمع البحث ولغته بسهولة، وهو ما دفعنى إلى القيام بمهمة جمع ما غمض على من مفرداتها لتعميق التواصل.
> لتعطينا بعض الأمثلة؟
>> حرف الجيم القاهرية، يتم تدوينه بالكاف المعقودة أو المنقوطة، من هنا تأتى صعوبة هذه اللغة وصعوبة تدوين بعض حروفها، وبالتالى وضع قواعد لها لضبط حركتها على الألسنة.
> وهل توقف الأمر عند الجمع الميدانى بمشكلاته؟
>> بالطبع لا.. الصعوبة تكمن فى الوصول للدلالات، فهدف أى دراسة لا يقف عند الجمع الميداني، والرضا بالدراسة الإثنوجرافية، لكن الهدف الأسمى هو الدخول لقلب الظاهرة، وتفكيك عناصرها، وفهم بنيتها، وأبعادها التاريخية والثقافية والاجتماعية، ولا يمكن الوصول للمفاهيم والدلالات إلا بفهم للغة.
> كيف يتم ذلك واللغة عصية على الفهم والاستيعاب والتذوق؟
>> نعم كانت اللغة عصية فى بادئ الأمر، ووقع أصواتها يلتبس معه الفهم، لكننى أجتهدت فى سماع اللغة عبر عدد كبير من اللقاءات المسجلة، فضلا عن عدم التحرج من الاعتراف بعدم الفهم، والسؤال عن أعمق الدلالات التى تختبئ خلف ظاهر النصوص، وقد مكنتنى غربتى من طرح أسئلة قد تبدو بسيطة للحصول على إجابات تكشف عن بنية الظاهرة ثقافياً وفنياً.
> كيف تغلبت على شعور الريبة والشكوك الذى يحيط بالباحث الذى يحاول التوغل فى العمق الاجتماعى والثقافى لجماعة بعينها؟
>> التمهيد للقاءات الميدانية كان مشجعاً، وكان الترحيب بى فى غالب الأحيان يعكس محبة المغاربة لمصر ولواحد من أبنائها، وكان اندماجى مع الكناوية مطمئناً حتى بدا للبعض أننى من الغارقين فى تراث ومأثور المغرب.
> إلى أى مدى تنتشر ظاهرة كناوة؟
>> حققت كناوة انتشاراً بين المغاربة، وتكاد تغطى المغرب كافة.