سوف يسجل التاريخ لبنيامين نتنياهو أنه رئيس الوزراء الوحيد فى تاريخ إسرائيل الذى سقطت فى عهده «هيبة الدولة الإسرائيلية» واستبيحت «حرمة» الأرض المغتصبة التى قامت عليها هذه الدولة وحافظ عليها من سبقوه من قادة الكيان الصهيوني، ومُرغت «سمعة» الكيان كقوة ردع لكل محيطه الإقليمى فى وحل هذا المحيط.
كل حروب إسرائيل التى خاضتها منذ قيامها، وكل عملياتها العسكرية الاستباقية ضد أعدائها كانت تتم خارج أرضها.. لم يسبق لقوة معادية أن جرؤت على انتهاك سيادتها.
هذه القاعدة.. الحرب خارج الأرض، صاغها مؤسسو الكيان الصهيونى انطلاقاً من ضيق مساحته الجغرافية أولاً، ولتأسيس هيبة الدولة المغتصبة ككيان لا يمس.
خاضت إسرائيل ثلاث حروب ضد مصر.. حرب السويس أو العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 بالمشاركة مع بريطانيا وفرنسا، وحرب يونيو 1967، وحرب أكتوبر 1973 والتى أطلقتها مصر.
الحرب الأولى أطاحت مصر فيها بقادة الدول الثلاث وأجبر المجتمع الدولى المعتدين على وقف العدوان والانسحاب.. الحرب الثانية احتلت إسرائيل فيها سيناء.. الحرب الثالثة انتصرت مصر عسكرياً وخاضت مفاوضات سياسية استناداً لهذا النصر استعادت بها سيناء، ثم خاضت عملية تحكيم دولى استردت بها طابا.. أخر موقع كان قد تبقى من سيناء.
تم ذلك كله دون أن تحتاج مصر لإطلاق رصاصة واحدة داخل إسرائيل لأنها هزمت الجيش الإسرائيلى حيث كان، وشلت سلاح الردع الإسرائيلى الطيران وكشفت حقيقة قوة إسرائيل التى كانت تستخدم أحدث الأسلحة الأمريكية.
فى عهد نتنياهو وبالذات منذ عام واحد انتهت أسطورة إسرائيل كقوة ردع وككيان غير قابل للاختراق أو المساس به أرضاً أو جواً أو بحراً.
نعم.. نحن نشاهد نتنياهو وجيشه يعربد فى غزة والضفة ولبنان ويهدد باجتياح الشرق الأوسط.. لكننا شاهدنا كيف تمكنت «جماعة» ـ وليست دولة ولا جيشاً نظامياً ـ هى حركة «حماس» فى السابع من أكتوبر الماضى من القيام باختراق مسلح مباغت، محدود النطاق الجغرافي، ومؤثر باتساع الكرة الأرضية كلها، لأراضى مستوطنات إسرائيل فى غلاف غزة، بل والوصول فى عملية «طوفان الأقصي» إلى داخل إسرائيل ذاتها، بكل ما تابعناه بعده على مدى العام من تفاصيل العملية وتداعياتها الإقليمية والعالمية.
بعدها، صارت إسرائيل كياناً مستباحاً لكل جماعات وفصائل المقاومة الفلسطينية والمساندين لها فى لبنان وسوريا واليمن والعراق.
تم إنزال إسرائيل وجيشها وقيادتها ـ لأول مرة فى تاريخها ـ من مستوى الدولة «السوبر» الذى تمتعت به ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، إلى دولة عادية، بل أقل من العادية، رغم استمرار الدعم الأمريكى الشامل لها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ومخابراتياً وتكنولوجياً.
أصبحت صواريخ حزب الله والحوثيين والعراقيين تنهال على إسرائيل من كل صوب، وتصل إلى إيلات، وتخترق سماوات الكيان وتسقط على مدنه وموانيه.
لم تكن إسرائيل طوال تاريخها فى حاجة إلى توفير مخابئ وملاجئ لمواطنيها، لأن أحداً لم يكن يضطرها إلى ذلك، ولم يدر بخلد قادتها أن يأتى يوم على مواطنيها، فى عهد نتنياهو وحده، وهم يهرولون بمئات الآلاف مذعورين إلى المخابئ والملاجئ تفادياً لهجمات المسيرات والصواريخ التى انطلقت بسببها صافرات الإنذار تحذيراً لهم.
أصبحت السفن التى تعمل لصالح إسرائيل فى المياه الدولية محاصرة ومعرضة للاستهداف فى خليج عدن وفى البحر الأحمر، بل وأحياناً فى البحر المتوسط.
هل كان أحد من مؤسسى الكيان الصهيونى وقادته قبل نتنياهو، يتصور أنه سيأتى يوم على إسرائيل يضطر رئيس وزرائها إلى عقد اجتماع لقادة جيشه ومجلس حربه فى غرفة محصنة تحت الأرض، كما حدث أول أمس عقب الهجوم الصاروخى الإيراني؟!
بل.. أبسط من ذلك كله.. هل كان أحد يتصور أنه سيأتى يوم على إسرائيل تخوض فيه حرباً مدمرة فى غزة لمدة عام كامل، دون أن تحقق هدفاً واحداً من أهدافها المعلنة؟! وأن تضطر إلى «طي» ملف رهائنها لدى حماس لتفتح ملف إعادة سكان مستوطناتها فى الشمال الذين أجبرتهم صواريخ حزب الله على النزوح إلى الداخل، وتغتال حسن نصر الله وكل قيادات حزبه لأنه تحداها أن تعيدهم، وتواصل عملياتها الجوية والبرية فى جنوب لبنان وصولاً إلى بيروت العاصمة دون أن تنجح حتى الآن ـ ولن تنجح ـ فى إعادة أسرة واحدة من هؤلاء السكان إلى بيتها؟!
أتحدث فى كل هذا فى نقطة واحدة فقط، وهى الإهانة التاريخية التى لحقت بدولة إسرائيل وكيانها الصهيونى على أرضها من جماعات محدودة العدد والعدة، وعن «الإذلال الموضعي» الذى تتعرض له بورقة الرهائن وورقة سكان الشمال وأن تقترب من استنفاد كل أدواتها الحربية وغير الحربية دون أن تنجح فى تحقيق أى هدف، على أى جبهة.
هذا بالطبع، بخلاف التطورات الجذرية التى تتتابع كل يوم فى مواقف الدول والتجمعات الإقليمية والعالمية لصالح القضية الفلسطينية، والسعى الدؤوب من مصر لقيادة عملية الحشد الدولى للاعتراف بالدولة الفلسطينية، كمعبر شرعى إلى حل الدولتين.
يعربد نتنياهو ما شاء له أن يعربد، ويدمر ويهدد ما حلا له أن يدمر ويهدد.. فطريقه مسدود مسدود، فالحرب سجال، وجولاتها طوال.. هذه ليست معركة قصيرة أو عابرة.. هذه حرب النهاية.. فلا تتحرر الشعوب من احتلال إلا بقتال، ولا تحدد موقعها على خريطة العالم إلا بنصر.. وقد انتصرت إسرائيل كثيراً، وتجبرت طويلاً، ويشاء الله أن يذل أكبر طواغيتها ويدفعه إلى أن يضع بيده نهاية لجبروتها.. وسياسته فى الهروب بحروبه إلى الأمام ستصل به إلى نقطة اللاعودة.