لولا ضمان أمريكا والغرب لأمن إسرائيل، لانتهت ككيان استعمارى منذ عقود.. ولو عدنا للأيام الأولى لحرب السادس من أكتوبر 1973، لتأكدنا من هذا المعنى ولأدركنا الأسباب التى أدت إلى زيادة الحرص الأمريكى على إسرائيل ولماذا أصبح التعهد بضمان أمنها وبقاؤها فى المنطقة جزءاً أصيلاً من الاستراتيجية الأمريكية، ومن أى حملة لأى مرشح للانتخابات الرئاسية يحلم بدخول البيت الأبيض.. وهو ما نراه حاليا فى المنافسة بين المرشحين كاميلا هاريس ودونالد ترامب.. فالأخير يحاول استغلال »ورقة اسرائيل« واستقطاب أصوات اليهود وتسويق نفسه باعتباره الوحيد الذى يمكنه إنقاذ اسرائيل من الانهيار ومن التفكك، على إثر الخسائر التى وقعت نتيجة للحرب فى غزة.. بينما هاريس تتحدث عن أنها مؤيدة لإسرائيل طوال حياتها وعلى مدى مسيرتها المهنية، وأنها مع حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، لكنها مع وقف إطلاق النار فى غزة وإطلاق سراح الرهائن.
نعود لحرب أكتوبر 1973، التى توضح عملياتها إلى حد بعيد لماذا وصلت الحالة الأمريكية لهذه الدرجة من الحرص على أمن وبقاء الكيان الصهيوني.. فقد كشفت هذه الحرب عن أن إسرائيل ورغم ما لديها من ترسانة أسلحة هائلة ورغم امتلاكها للسلاح النووي، إلا أنها دولة صغيرة جدا وبلا عمق استراتيجي، وأن قادتها يشعرون دائما بالضآلة وعدم القدرة على تحقيق الأمن دون الاعتماد على أمريكا والغرب، وقد ظهر ذلك واضحاً فى الأيام الأولى لحرب 1973، عندما نجحت القوات المصرية فى عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف الحصين، وهو ما صاحبه هلع فى اسرائيل وارتباك كبير فى قيادتها العسكرية والسياسية، وبكى موشى ديان وزير الدفاع الاسرائيلى آنذاك من هول الصدمة، بينما صرخت جولدا مائير رئيسة الوزراء قائلة: »انقذوا إسرائيل«، تلك العبارة التى مازالت تؤلم الاسرائيليين، ومازال أثرها قائماً فى بعض المدارس العسكرية وفى دوائر صنع القرار الأمريكية والغربية.
لقد أبهرت القوات المصرية فى حرب أكتوبر 1973 المدارس العسكرية فى العالم، بعدما نجحت فى التغلب على الأسلحة الاسرائيلية المتطورة وفى تنفيذ أكبرخطة للخداع الاستراتيجي، كما أثبتت معارك سيناء أن المصريين لديهم ثقة كبيرة بأنفسهم فى الانتقال من القتال الثابت إلى القتال المتحرك ضد المدرعات الإسرائيلية، وأظهرت القوات الجوية المصرية كفاءة كبيرة فى السيطرة على سماء المعركة، كما كشفت قوات الدفاع الجوى عن قدرة هائلة فى توفير الحماية للقوات البرية فى سيناء، هذا عن الجانب العسكرى أما على المستوى السياسي، فقد أدركت دوائر صنع القرار الغربية أنه من المستحيل بقاء الكيان الصهيونى بمفرده أمام قدرات مصر والدول العربية، ولابد من دعم هائل لإسرائيل يضمن أمنها ويمكنها من حماية المصالح الأمريكية والأوروبية فى المنطقة.
كان دعم أمريكا والغرب لتوقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، أكبر ضامن لأمن إسرائيل، الذى كان بدوره حافزاً لتوقيع اتفاق »أوسلو« مع الفلسطينيين عام 1993 ثم اتفاق وادى عربة مع الأردن عام 1994، وبعد ربع قرن تم توقيع اتفاقيات سلام بين إسرائيل والامارات والبحرين والسودان والمغرب 2020، وقد كان متوقعاً أن تشجع هذه الاتفاقات إسرائيل على اتخاذ خطوات من شأنها تحقيق المزيد من السلام وان تستمر مفاوضات السلام مع الجانب الفلسطينى إلى ان يتم التوصل لاتفاق سلام شامل يضمن حقوق الفلسطينيين ويضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، غير أن السلوك الاسرائيلى جاء على العكس تماماً، وبدت الحرب على قطاع غزة أنها تأتى فى إطار مخطط إسرائيلى لتدمير السلام وتصفية القضية الفلسطينية والعودة إلى المربع الأول فى تاريخ الصراع.
وليست مبالغة فى أنه بالنظر لتاريخ الصراع والأحداث التى مرت بها المنطقة بما فيها نصر أكتوبر1973 وكذلك التطورات الأخيرة، فإن اغتيال اسرائيل للسلام واستمرارها فى الحرب على غزة والضفة، إضافة إلى الكشف عن نواياها التوسعية فى المنطقة.. كل ذلك لن يكون فى مصلحتها، خاصة أن الأشهر القليلة الماضية كشفت عن هشاشة جيش الاحتلال وانقسام المجتمع الاسرائيلي، وانصراف عدد كبير من دول العالم عن الكيان الصهيوني، حتى وإن بدا ذلك ضد رغبة الغرب أو أنه يفزع ترامب وتترقبه كاميلا هاريس.