من المتوقع أن تعود وتسود خلال الفترة القادمة مفاهيم «الأمن المائي» و»الهيمنة المائية» و»الاحتكاكات المائية» وتعود إلى الواجهة العبارة التى تثير قلق العالم من أقصاه إلى أقصاه وهى «حروب المياه»، وربما كانت أسباب عودة قضايا المياه إلى واجهة الاهتمامات الدولية مجددًا يمكن حصرها فى أولاً–التغيرات المناخية الحادة وارتفاع درجة حرارة الأرض وانتشار التصحر والجفاف وبوار الزراعات وانتشار الفقر والمجاعات على نطاق واسع فى أماكن شاسعة من العالم مما خلق نزاعات مسلحة وصراعات عرقية تبدو فى ظاهرها سياسية لكن فى حقيقتها بسبب شح المياه والصراع على ما هو موجود منها بعد انحسار الانهار وجفاف العديد منها، ثانيًا – الأزمات الاقتصادية التى ضربت العديد من دول العالم دفعت العديد منها إلى مراجعات استراتيجية فيما يخص الموارد والحاجات للاعتماد على النفس ومن هنا ارتقت قضايا الأمن المائى لتصل إلى الصدارة، ثالثًا – هناك من يقف وراء دول المنابع ويدفعها إلى الانقلاب على النظام والقانون الدولى المنظم للانهار الدولية العابرة للحدود، لكى تصل إلى ما يسمى «تسليع المياه» أى جعلها سلعة مثلها مثل الغاز والبترول والمعادن المستخرجة من باطن الأرض ومن ثم يتم إنشاء بورصات و وبنوك ومصارف للمياه وتقف العديد من مؤسسات التمويل وصناديق الاستثمار فى انتظار هذه اللحظة التى تتحول فيها المياه إلى سلعة تباع وتشترى من خلال بورصات متخصصة، هذا المشهد العبثى الذى يرسمه بعض الشياطين ويسوقونه لبعض دول المنبع على حساب كل من دول المرور ودول المصب، هذا الطرح المكبوت والذى يتم تغذيته سرًا بأدوات وأشكال مختلفة يمثل خرقا تاريخيًا غير مسبوق ليس للقوانين الدولية والإنسانية فحسب بل للقوانين الربانية التى رسمها مهندس هذا الكون وطبيبه وخالقه، تلك الانهار التى تنبع من قمم الجبال حيث محصول الأمطار المتدفقة من السماء إلى حيث ارادها مجريها سبحانه، ومع هذا الإيمان الراسخ بأن الأمر كله لله يديره كيفما شاء، إلا أن الأخذ بالاسباب والاستعداد بالوعى والفهم والتحرك وبناء القدرات وابطال خطط الشياطين والمرتزقة والطامعين والحاقدين بات واجباً وفرض عين علينا جميعًا لا فرض كفاية، فماذا عسانا أن نفعل ونحن وسط اعاصير الأزمة، فمصر دولة مصب والسودان دولة ممر وإثيوبيا دولة منبع، وقضيتنا مع أثيوبيا ليست فى سد النهضة وملفه وتخزينه فقط وليست فى السدود المستقبلية المخططة على النيل الأزرق وفقط، القضية أكبر من ذلك وأعمق، فإثيوبيا ترى بعيون جهات دولية –على رأسها الحركة الصهيونبة – أن النيل الأزرق نهر إثيوبى من حق إثيوبيا ان تمارس سيادتها الكاملة عليه، ونرى أيضًا وبنفس العيون ان دول الممر والمصب ليس من حقها التدخل حتى ولو كان القانون الدولى فى صفها! بيد أن إثيوبيا مدعومة من جهات عديدة ترى فيها قوة إقليمية فى شرق أفريقيا يمكن الاعتماد عليها فى تجربة وتسويق فكرة « تسليع المياه «من خلال مارثون المناكفات التفاوضية العبثية التى استمرّت عقدا ونيفا من الزمان، لم تصل المفاوضات إلا لمزيد من عدم الثقة بين جميع الأطراف، وسط صبر وحكمة مصرية غير مسبوقة، مصر لا تنظر فقط إلى سد النهضة الذى تم تشييده وربما دخل الخدمة ولكن انظر إلى المستقبل القريب والبعيد، فالخطط الإثيوبية المعلنة تتحدث عن سدود جديدة وقطعًا ما جرى مع سد النهضة الذى وُضع حجر اساسه فى أثناء سنوات الفوضى فى 2011 لن يحدث مجددًا تحت أى ظرف من الظروف، وكذلك تحاول إثيوبيا الربط بين مياه النيل ومياه البحر الأحمر وفقًا «لاستراتيجية ترابط المياهين» حيث تصر أديس أبابا على وجود منفذ لها على البحر الأحمر حيث انها دولة حبيسة وهذا لن يكون إلا بالاتفاق مع الحكومات الشرعية فى الصومال أو جيبوتى أو اريتريا، وتحاول استخدام نهر النيل كرهينة لحين النفاذ إلى سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي، وسيكون مسار المناورة بفكرة تسليع المياه هى الخطوة الأخيرة فى خارطة الطريق الإثيوبية، بالطبع ما تتجه اليه إثيوبيا يمثل سابقة عالمية ستفتح أبواب جهنم على الأمن والسلم الدوليين من خلال اختلال التوازن بين دول المنبع من ناحية ودول الممر والمنبع من ناحية أخري، وسط كل هذه المنمنمات جاء التحرك المصرى فى منطقة القرن الأفريقى محسوبًا ومفهومًا ومقدرًا .