هذا الفنان والمعمارى والمستشرق الفرنسى «بريس دافين» واحد من أولئك الذين بهرتهم مصر وعانقوا ثراها وسجدوا فى محراب تراثها الخالد وعاش تحت صفاء سمائها يتنقل بين ربوعها من أقصاها إلى أدناها يرسم ويدرس ويسجل انطباعاته ويندمج مع الحياة بين دروبها وامتزج بالمصريين يحاكيهم زيا ويتقن لغتهم حتى اشتهر باسم «ادريس أفندي» ولقد كتب ادريس افندى مجلدات ضخمة عن الحضارة المصرية تضمنت البومات لروائع الفن الفرعونى والاسلامى ومذكرات عن الحياة والأحداث والناس لم ير النور منها سوى شذرات.
عاش ادريس أفندى فى مدينة الأقصر خمس سنوات (1838 – 1843 ميلادية) دارسا وباحثا وأقام بمنزل على النيل مبنى بالطوب اللبن على أنقاض قصر «أمونو بولس»، أقامه البحارة الفرنسيون الذين شاركوا فى نقل مسلة «رمسيس الثاني» من خدرها الآمن بمعبد الأقصر لتقف شامخة فى ميدان «الكونكورد» بباريس حتى الآن وقد أثمرت اقامته فى الأقصر اكتشافه لاثنتى عشرة غرفة فى معبد «خونسو» بالكرنك وعثوره على البردية الهيراطيقية التى اشتهرت فى عالم البرديات باسمه «بردية بريس دافين».
وكان لإدريس أفندى فضل لا ينكر فى الدفاع عن آثار مصر وحمايتها من النهب والتخريب حتى اقنع الباشا «محمد علي» فأصدر أول فرمان يمنع التصرف فى الآثار والذى صاغه رائد التنوير الشيخ «رفاعة الطهطاوي» وكانت الآثار المصرية أيامها نهبا لكل منتهب.
وفى فترة غاب فيها الوعى تحولت المعابد الكبيرة والأعمدة الشامخة إلى محاجر تنقل أحجارها لبناء معامل السكر والبارود ومشروعات الباشا حتى ان معبد «تحتمس الثالث» ومعبد المجانين بمدينة آرمنت الحائط – غرب نيل الأقصر – فككا تماما لبناء معمل السكر وكانوا أيامها يستعملون «الديناميت» أحيانا فى تفكيك هذه الأحجار.
وفى هذه الفترة ساهمت السلطات فى هذا التخريب الآثم إذ فرض الباشا على فلاحى مصر توريد قنطار من الأحجار عن كل فدان مزروع لبناء مشروعاته وكان رجال الإدارة أيامها يسوقون الفلاحين إلى المعابد للحصول على هذه الأحجار المشذبة الصالحة للبناء والأقرب منالا من بطن الجبل!! كان التراث فى ذلك الوقت لا يمثل لأولئك الأتراك سوى بقايا عبادات وثنية يجب أن تندثر، ولعل الصداقة التى ربطت بين ادريس افندى وصديق «محمد علي» ورفيق سلاحه «ماهويك» – الذى قدم إلى الأقصر للإشراف على نقل القمح وبناء معمل للبارود فى معبد الكرنك – استطاعت أن تجذب اهتمام هذا التركى إلى معالم التراث المصرى والحضارة الفرعونية وبدأ فى استيعاب القيمة التاريخية للآثار ولما صدر أمر الباشا بتكسير بوابة معبد الكرنك لاستخدام أحجارها فى إقامة منشآت معمل البارود فى الكرنك استطاع ادريس افندى أن يقنع صديقه «ماهويك» بأن يحفظ لمصر هذا الأثر الغالي.
ساعتها استجاب «البك» لرجائه وأنقذ معبد الكرنك من تحطيم وشيك وحفظ للحضارة الانسانية هذا الصرح الكبير.
ولكن ادريس افندى الذى استطاع أن يحقق هذا الانجاز الكبير لم يتورع عن نقل غرفة الملوك التى أقامها الملك «تحتمس الثالث» فى ربى «آمون» بمعبد الكرنك هدية لبلاده لتحفظ حتى يومنا هذا فى متحف «اللوفر» بباريس.