حينما تجتمع الإرادة السياسية مع الوعى التاريخى، تولد مبادرات عظيمة تعيد للأمم ملامح مجدها وعبق تاريخها. وفى هذا السياق، تأتى جهود الدولة المصرية لإحياء منطقة القاهرة الخديوية، وفى القلب منها مشروع إعادة إحياء وتشغيل مقهى جروبى العريق، كخطوة رمزية وعملية تحمل دلالات أعمق مما يبدو للوهلة الأولى.
ليس جروبى مجرد مقهى تقادم عليه الزمن، بل هو ذاكرة حيّة لعصر كان فيه وسط القاهرة قلبًا نابضًا بالثقافة والفن والرقى الأوروبى الممزوج بالروح المصرية. أسسه جاكومو جروبى، السويسرى الذى عشق مصر، فأهدى أهلها مكانًا أصبح شاهدًا على تحولاتهم الاجتماعية والثقافية. أن يعود جروبى للحياة اليوم، فذلك يعنى أن مصر لا تفرط فى ذاكرتها، بل تحتفى بها، وتستدعيها لتكون جزءًا من مستقبلها.
الاجتماع الذى ترأسه اللواء أ.ح. دكتور خالد فودة، مستشار رئيس الجمهورية للتنمية المحلية، بحضور قيادات من محافظة القاهرة وممثلين عن شركات كبرى، يكشف حجم الجدية التى تتعامل بها الدولة مع هذا المشروع. لم يعد الأمر مجرد تطوير شارع أو ترميم مبنى، بل أصبح مشروعًا وطنيًا لإعادة رسم وجه القاهرة بهويتها الأصيلة، وبتوازن ذكى بين عبق الماضى وروح الحاضر.
القاهرة الخديوية ليست مجرد مبانٍ، بل روح حضارية مميزة جمعت بين الطراز الأوروبى والخصوصية المصرية. كل رصيف، كل شرفة، وكل نافذة تروى قصص أجيال مضت. إعادة الحياة إلى هذه المنطقة ليست رفاهية، بل ضرورة ثقافية وسياحية واقتصادية. ففى الوقت الذى تتسابق فيه عواصم العالم لإبراز تراثها واستثماره، من حق القاهرة أن تستعيد مكانتها كواحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها تميزًا.
أما جروبى، فهو رمز حى لهذا المشروع. إعادة افتتاحه ستجعل المصريين والزوار يعيشون تجربة لا تُنسى، حيث تختلط رائحة القهوة بأصداء تاريخ غنى، شهد على أفراح المجتمع المصرى وأحزانه، وعلى تحولاته الكبرى. إنه أكثر من مقهي؛ إنه مشهد ثقافى يتجدد بروح جديدة تحترم الأصل وتضيف إليه.. تطوير القاهرة الخديوية رسالة قوية: مصر لا تهدم تاريخها، بل تعيد صياغته ليبقى حيًا فى وجدان الأجيال القادمة. وهى أيضًا فرصة اقتصادية كبيرة، إذا ما استثمرناها بشكل ذكى، لجذب السياحة الثقافية وتقديم وسط القاهرة كمتحف مفتوح يضاهى أعرق عواصم العالم.