بعد نصف قرن وأكثر من العبور العظيم، مازالت حكايات النصر لم تكشف بعد، ولم يقدم منها إلا القليل.. وإذا كانت الفنون كلها تسابقت لكى ترصد الحدث الأبرز فى تاريخنا الحديث بالأغنية والفيلم والمسلسل والمسرحية والكتاب.. لكنها مازالت لم تقترب من البطل الأول فى هذه الحرب وهو المواطن المصرى البسيط أو قُل الـ 40 مليون نسمة تعداد البلد تقريباً فى ذلك الوقت، الذى تحمل المعاناة، أولاده وآباؤه فى الخدمة العسكرية، وأغلب موارد الدولة تذهب إلى المجهود الحربي، وهو بمرتبه البسيط يسهم فيها بأقصى ما يملك، يفعلها عن طيب خاطر وبنفس راضية واثقة فى نصر الله، يتجاوز لحظات إحباط ما بعد نكسة 67 بالصبر والعرق والشغل.
الشعب هو البطل الغائب الذى لم تقف أمامه الفنون بما يليق بعظمته وصموده وبطولاته.. وكيف كانت أمهات البيوت يتجاوزن مصاعب الحصول على المواد الغذائية باختراع أكلات بديلة تلتف حولها الأسرة راضية مرضية، ومنها وفيها من يمثلها على جبهة القتال وهى تنتظر عودته رافعاً رايات النصر.. وهو ما تحقق بعد 6 سنوات، ما أصعبها وما أجملها، وقد كشفت أنبل وأجمل ما فينا كشعب، لا تعرف أصالة معدنه إلا فى الشدائد والأحوال الاستثنائية.
وقد رأيت بعينى وعشت ساعات ضرب مصنع الحديد فى أبوزعبل وأحد المعسكرات القريبة منها عام 1969، وكيف كان الناس ينقلون صناديق الذخائر فى أحضانهم بعيداً عن النيران ويساعدون المصاب ويحملون الشهداء، فى ملحمة لا يمكن لكاتب مهما كانت قدراته أن يرصدها، حتى تم اكتمال حائط الدفاع الجوى وقطع دابر الطيران الاسرائيلى ومنعه من أن يقترب من داخلنا فى وقت كانت فيه قوات الصاعقة تقوم بعملياتها خلف خطوط العدو.
نصر أكتوبر بدأ بعد أسابيع من نكسة 67.. وارجعوا إلى ما جرى فى جزيرة شدوان وضرب المدمرة ايلات، وفى نفس الوقت أخـــذت أم كلثوم على عاتقها جمع المال للمجهود الحربى وانطلقت فى رحلاتها الداخلية والخارجية وهى تغنى من أشعار نزار قبانى «أصبح عندى الآن بندقية» وكان جمال عبدالناصر يقولها على الملأ: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وهو ما كان وغنى عبدالحليم «فى تلك الأيام» للشاعر الكبير محسن الخياط ابن جريدة «الجمهورية»: لفى البلاد يا حبيبة بلد بلد، نادى الولاد يا حبيبة ولد ولد.. وهو أيضا من قال: سكت الكلام والبندقية اتكلمت والنار وطلقات البارود شدت على ايدين الجنود واتبسمت، واحنا جنودك يا بلدنا وحبنا، ما شيين على طول الطريق اللى رسمناه كلنا، جيت لك وأنا ضامم جراح الأمس، حالف ارجعلك عيون الشمس يا بلدي.
العصفور يتنبأ
عندما قدم يوسف شاهين فيلم «العصفور»، الذى يحكى عن فترة ما بعد حرب 67، كلف الشاعرة نبيلة قنديل بكتابة أغنية لحنها زوجها الموسيقار على اسماعيل مؤلف الموسيقى التصويرية للفيلم عام 1972، وتقول كلماتها: رايحين ماشيين، راجعين شايلين فى ايدنا سلاح باسمك يا بلدى قبلنا التحدي، راجعين شايلين رايات النصر.
كانت هى أغنية النصر فعلاً، فقد أخذها يوسف شاهين وذهب إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون وقابل الإعلامى الكبير وجدى الحكيم وكانت من أوائل أغانى العبور مع ما قدمه عبدالرحيم منصور وبليغ حمدى بعد ساعات من العبور وانهيار خط بارليف ووقفت وردة تقول: وأنا على الربابة بغني، وقبلها أصوات المجموعة تنشد: بسم الله الله أكبر.. ونظراً لظروف الحرب، أشرك بليغ بعض الموظفين ومهندسى الاستديو فى الكورال، لكى تخرج الأغنية للنور فى التو واللحظة وتعيش إلى يومنا هذا بصدقها الخالص، وعند الدقائق الأولى من الحرب واجتياز أبطالنا الساتر المنيع وضرب العدو بمفاجأة أذهلته وشلت يده، ولم يجدوا فى مكتبة الإذاعة أفضل من أغنية محمد فوزى «بلدى أحببتك يا بلدي» وهى أيضا من كلمات محسن الخياط، وكانت تجسد روح أكتوبر الواثقة المشحونة بالعاطفة بعيداً عن الانفعال والافتعال.
رصاصة ياسين
الأفلام التى ركزت فى موضوعاتها على فترة حرب أكتوبر وما سبقها من استعدادات وتدريبات، اتخذت لنفسها غالباً نفس المسار قصة حب مرتبطة بقصة البلد من خلال جندى أو ضابط يشارك فى المعركة وانعكاس آثار ذلك على حياته الخاصة والعسكرية، يتشابه فى ذلك «الرصاصة لاتزال فى جيبي» لإحسان عبدالقدوس، و»حتى آخر العمر» ليوسف السباعي، وهو أيضا صاحب قصة «العمر لحظة» الذى أنتجته ولعبت بطولته ماجدة مع أحمد مظهر وأحمد زكى وناهد شريف، يضاف إلى ذلك «الوفاء العظيم» لفيصل ندا أو «بدور» للمخرج نادر جلال وهو صاحب القصة.. لكن هناك ما يشبه الإجماع على أن أفضل أفلام أكتوبر «أبناء الصمت» و»أغنية على الممر» وهما يتحدثان عن فترة حرب الاستنزاف وإن جرى تقديمهما بعد 1973.. وأنا أضيف إليهما فيلم «الطريق إلى إيلات» للكاتب فايز غالي، لأنه رصد قصة ضرب ميناء إيلات بتفاصيل شديدة الدقة قدمتها المخرجة انعام محمد على وهى المشهورة بصغائر الأمور فى أعمالها، ولها من أفلام أكتوبر أيضا «حكايات الغريب» ولولا أنه من إنتاج التليفزيون لدخل فى المنافسة على المراكز الأولى فى أفلام أكتوبر، فقد كتبه الأديب الكبير جمال الغيطانى الذى عمل كمراسل حربى فى تلك الفترة وعاشها، وبالتالى رسمها عن قرب بأسلوبه الفنى الرفيع.
بذلك يحق للمخرجة انعام محمد على أن تفخر بأنها أكبر منافس للمخرج على عبدالخالق، بالفيلمين اللذين قدمتهما باحترافية عالية وتميز فى الكتابة والتمثيل والإخراج واختيار الموسيقى وأماكن التصوير، مع العلم أن قطاع الانتاج كان يقدم الأفلام السينمائية ويعرضها فى دور السينما مع عرضها على الشاشة، تحت إدارة شهبندر الإنتاج المرحوم ممدوح الليثي، وقد فعل هذا معى فى فيلم «لصوص خمس نجوم» الذى كتبت له السيناريو وأخرجه الكبير أشرف فهمي، وأقام حفلاً لافتتاحه فى سينما كايرو.. وكان «الطريق إلى إيلات» أكثر حظاً فى الاحتفال به وعرضه سينمائياً، بعكس ما جرى مع «حكايات الغريب» الذى كتبه المبدع محمد حلمى هلال عن قصة الغيطاني، وقد استوحاها من سائق فى جريدة «الأخبار» استشهد وهو يؤدى عمله، ويقوم بتوصيل المحرر العسكرى إلى الجبهة، وجرى البحث عنه فى كل مكان وظلت عملية البحث مستمرة طوال ست سنوات، والناس فى كل مكان تؤكد وجوده هنا وهناك، حتى تحقق النصر.. وفى ذلك من الرمز ما يعنى الكثير وتلك هى حرفية الغيطانى وصنعته الإبداعية فى تحويل حدث بسيط إلى قصة تقول الكثير وهو ما دفع انعام محمد على لكى تخرج العمل، لكى يتصدر أعمال أكتوبر، رغم عدم إذاعته كما يجب، قياساً بفيلمها الآخر «الطريق إلى إيلات»، و»الغريب» لا يقل عنه بحال.
كما كان فيلم «الممر» واحد من أهم الأفلام التى رصدت صمود المصريين وكيف حولوا النكسة إلى انتصار على العدو بالروح الوطنية.
من «الثعلب» إلى «هجمة مرتدة»
لا يمكن تجاهل أفلام المخابرات والجاسوسية، فهى بكل المقاييس حربية، لأن المعلومة التى يقدمها العميل السرى هى أساس الخطط، ومسلسلات وأفلام: «رأفت الهجان، دموع فى عيون وقحة، الحفار، الثعلب، فخ الجواسيس، الصعود إلى الهاوية، السقوط فى بئر سبع، إعدام ميت، الزئبق، وصولا إلى هجمة مرتدة» الذى كشف الكثيرمن خبايا المؤامرة على مصر من فترة 2011.
وغيرها.. وهى بشكل أو بآخر ترصد بطولات ساهمت فى النصر العظيم، وقصة أشرف مروان تدخل تحت هذا العنوان، لكن البطولة الكبرى التى لم نقدمها فى الروايات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات، تلك التى ننتظرها وهى قصة هذا الشعب العظيم الذى يعشق تراب بلده ويتحمل الكثير قبل الحرب فى ذروة اشتعالها ثم بعدها، وهو يعرف انها تستحق منا الغالى والنفيس، لأننا غير كل بلاد العالم، جيشنا شعبنا، وشعبنا جيشنا.. قبل أكتوبر وبعده وإلى يوم الدين.
الرئيس السيسى يتحدث فى كل مرة من دور الشعب البطل ولابد أن يجسد السينما هذه البطولة.