عاش الفلسطينيون خلال الاثنى عشر شهرا الماضية أسوأ حروب العصر الحديث وأكثرها بشاعة عندما قررت دولة الاحتلال شن حرب إبادة على قطاع غزة ارتكبت فيها جرائم مروعة ضد الإنسانية وضد الأعراف والقوانين الدولية.. الحرب على غزة ليست مجرد معركة عسكرية بين فصائل سياسية ودولة احتلال بل هى أزمة إنسانية عميقة تؤثر على حياة الملايين.. دمرت بيوتهم عن بكرة أبيها وخلفت كوارث صحية وإنسانية وبيئية ستظل تداعياتها لسنوات.. استشهد فيها أكثر من 14 ألف فلسطينى.. ترملت النساء ويُتِّم الأطفال وظل شيوخها محاصرين بين خطوط النار عاجزين عن الهروب من دائرة العنف وتقطعت الدروب بأجيال متتالية بين الحاجة للبقاء والأمل فى مستقبل أفضل.
أتت الحرب على الحجر والبشر ومسحت من السجلات عائلات كاملة وأحياء كثيرة ومدارس ومستشفيات ونشرت الأمراض والمجاعة بين النازحين لتتراكم عليهم الهموم فى خيام متهالكة تحيط بها أوضاع بيئية صعبة ورغم ذلك تسيل لعاب الاحتلال الإسرائيلى لقصفها بوحشية واعتبارها هدفا دائما لغاراتها.
ورغم محاولات التهدئة وحقن دماء من تبقى فى قطاع غزة.. تصر آلة الحرب الإسرائيلية على حصد المزيد من أرواح الأبرياء، ضاربة عرض الحائط بالمساعى الدولية لإنهاء العدوان.
عام من العار..
لقوات الاحتلال الإجرامى
مقابر جماعية.. وسرقة أعضاء.. إعدامات ميدانية
عائلات فلسطينية بالكامل حذفت من السجل المدنى
أيام قليلة وتكتمل الحرب الاسرائيلية عامًا كاملًا، ورغم أن معدلات القتل فى تراجع، إلا أن عدد الوفيات ما زال صادماً. خلال هذا العام ارتكبت القوات الاسرائيلية جرائم بشعة وانتهاكات يندى لها الجبين، جعلت من العدوان حرب إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معان، ورغم ذلك فان الاحتلال مستمر فى الصعود على سلم الجريمة الجماعية، من قتل الأفراد بأبشع الصور، إلى إبادة الأسر والعوائل حتى أن هناك بعض العائلات لم يبق لها ذكر فى السجل المدنى، ليتحول أى فلسطينى فى غزة إما شاهداً أو شهيداً.
على مدار هذا العام أصبح قطاع غزة شاهدا على أشكال واسعة ومتنوعة من الانتهاكات الصارخة التى ارتكبها الاحتلال بحق السـكان المدنيين هناك، بعد أن أسـفرت الحرب عن اسـتشــهاد 41 ألفاً و500 فلسطينى، غالبيتهم من النساء والأطفال.. كما تحولت غزة نفسها إلى رماد وركام.
كما أنه برزت خلال تلك الحرب مئات الشهادات التى تؤكد انتهاج الجيش الإسرائيلى سياسة الإعدام الميدانى لمئات الضحايا، ودفن العشرات منهم فى مقابر جماعية. تلك الشهادات والمشاهد المروعة فى غزة، سلطت الضوء على الوضع المأساوى هناك، وأعادت مجددا إلى الذاكرة تاريخا طويلا من الوحشية المتجذرة فى التركيبة العسكرية الإسرائيلية منذ المراحل الأولى لتأسيس «دولة إسرائيل» وحتى الآن.
وحشية الاحتلال ظهرت حتى فى تصريحات المسئولين الاسرائيليين منذ بداية العدوان فلم يكن قد مضى شهر واحد، حتى فضح الوزير الإسرائيلى وعضو المجلس الوزارى المصغر آفى دختر نوايا جيش بلاده، بتكرار النكبة الفلسطينية، وما أُطلق عليه «نكبة غزة 2023-، فيما بدا لاحقا أن إسرائيل جادة بالفعل فى تكرار نكبة 1948، بكل ما تخللها من عمليات تهجير قسرى ومذابح وحشية، وعمليات دفن جماعى لمئات الضحايا الفلسطينيين.
بعدها أثار وزير التراث الاسرائيلى عميحاى إلياهو الجدل بتصريحات تضع إسقاط قنبلة ذرية على غزة «أحد الاحتمالات» فى الحرب التى تشنها إسرائيل على القطاع، وقال الوزير الإسرائيلى إن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن، مضيفا أن قطاع غزة يجب ألا يبقى على وجه الأرض، وعلى إسرائيل إعادة إقامة المستوطنات فيه، ورأى أن للحرب أثمانا بالنسبة لمن وصفهم بـ»المختطفين» الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية.
كما دعا وزير المالية الإسرائيلى المتطرف بتسلئيل سموتريتش، جهاز الاستخبارات «الموساد» إلى اغتيال قادة حركة حماس، وتدمير قطاع غزة بالكامل. وزعم سموتريتش أنه آن الأوان لكى يعود الموساد إلى القيام بما تدرب عليه، أى تصفية قادة حماس فى كل أنحاء العالم، وليس الانخراط فى مفاوضات تجرى بشكل غير مسؤول وتضر بأمن إسرائيل، وفق زعمه.
ويكشف الواقع الحالى فى غزة استمرار الوحشية الإسرائيلية، من خلال جهة المجازر التى تُرتكب بحق المدنيين، والتى أصبحت أكثر ابتكارا وقسوة، عبر عمليات القصف المكثف لمناطق قطاع غزة المختلفة، وتحويل عشرات الأبنية إلى قبور تبتلع سكّانها، أو فى خضم الاجتياح البرى، الذى تخللته عمليات اعتقال للعشرات قبل إعدامهم ميدانيا فى عدة حوادث بأنحاء قطاع غزة.
ومع تراجع قوات الاحتلال عن مناطق عملياتها العسكرية فى أنحاء القطاع، تتكشف حقائق جديدة حيال الانتهاكات الواسعة بحق المدنيين، بعد اكتشاف مقابر جماعية تضم مئات المدنيين، بينها مقبرة فى مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، حيث تم العثور على مقبرتين جماعيتين تحويان جثث مئات الشهداء، رُجّح أنه قد جرى إعدام العشرات ميدانيا، مع ترجيح وجود أكثر من 700 جثة مدفونة بمقابر جماعية بمحيط المستشفى.
وقد سبق ذلك الكشف عن مقبرة جماعية فى باحة مستشفى الشفاء بغزة، تضم جثث فلسطينيين كانوا يرتدون ملابس داخلية فقط، فيما يبدو أنه تم إعدامهم بعد اعتقالهم، فيما انتشلت طواقم الدفاع المدنى الفلسطينى جثث أكثر من 300فلسطينى فى أنحاء المستشفى، جرى قتلهم خلال اقتحامه فى منتصف مارس الماضى، واحتلاله لأكثر من أسبوعين.
كما ارتكب الاحتلال مجزرة مروعة فى المستشفى المعمدانى، وهى مجزرةٌ ارتكبها سلاح الجوّ الإسرائيلى حينما أغارَ على المستشفى فى حى الزيتون جنوب مدينة غزة فى ساعات الليل الأولى من يوم السابع عشر من أكتوبر2023 أصابت الغارةُ الجوية الإسرائيلية العنيفة ساحة المستشفى التى كان فيها العشرات من الجرحى فضلًا عن مئات النازحين المدنيين وأغلبهم من النساء والأطفال.
أدت المجزرة الإسرائيلية إلى كارثة حقيقية؛ إذ مزَّقت أجساد الضحايا وجعلتهم أشلاء متفرقة ومحترقة، فيما تحوَّل المستشفى إلى بِركة من الدماء، كما أشارت التقديرات الأولية إلى استشهاد ما بين 200 إلى 300 مدنى فلسطينى فى القصف الذى تعمَّد استهداف المستشفى الممتلئ عن آخره بالمدنيين النازحين وضحايا الغارات.
وفى يناير الماضى تم العثور على مقبرة جماعية تضم جثامين 30 شخصا فى إحدى مدارس بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، مكبلى الأيدى ومعصوبى الأعين، مما يشير إلى اعتقالهم قبل إعدامهم ميدانيا ودفن جثثهم.
أما مجزرة دوار الكويت أو «مجزرة الأفواه الجائعة» فهى جريمة ارتكبها الطيران الإسرائيلى يوم الخميس الموافق 25 يناير 2024 حيثُ استهدفت هذه الغارات مئات الفلسطينيين الجوعى والذين توجهوا لدوار الكويت للحصول على المساعدات مما أدى إلى استشهاد أكثر من 25 شخصا بالإضافة إلى مئات الإصابات.
النصيرات أيضا شهدت مجزرة مروعة بعد أن أطلقت القوات الإسرائيلية النيران من كل صوب عبر سلاحها الجوى بالدرجة الأولى وبالشراكة مع سلاح المدفعيّة والسلاح البحرى يوم 8 يونيو 2024 وراحَ ضحّيتها 274 فلسطينيًا أغلبهم من المدنيين.
وكدليل لا يقبل الشك على تعمد الاحتلال استهداف المدنيين دون مبرر، ارتكبت المقاتلات الإسرائيلية مجزرة فى مساء 26 مايو الماضى، فى محيط منطقة البركسات التى تؤوى نازحين شمال غرب رفح الفلسطينية، ولم تمض دقائق حتى عاودَ الطيران الحربى غاراته مستهدفًا خيام النازحين قُرب مخازن الأونروا فى الشمال الغربى لرفح أيضًا..وأظهرت التقارير الواردة من موقع الغارات أن النيران التهمت أجساد الضحايا بينما كانوا فى خيامهم التى نزحوا إليها بعدما أكد الاحتلال أنها «منطقة آمنة»، حتى أن وسائل الإعلام أطلقت على تلك المجزرة «محرقة الخيام».
وارتكب الاحتلال مجزرة مواصى صبيحة الثالث عشر من يوليو عندما قصف عشرات خيام النازحين وبعض الأبنية فى مواصى خان يونس الواقعة غرب المدينة فى قطاع غزة. تسبَّبت هذه المجزرة فى استشهاد ما لا يقلُّ عن 90 فلسطينيًا وجرح أكثر من 300 آخرين بحسب وزارة الصحة بغزة. زعمت إسرائيل عبر وسائل إعلامها وبشكل رسمى فى وقت لاحق أنّ الهدف كان محمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة حماس والفاعل الرئيسى فى عملية طوفان الأقصى وفى الحرب بين فصائل المقاومة فى غزّة وبين إسرائيل.
انتهاكات الاحتلال لم تقف عند حد القصف أو دفن الشهداء فى مقابر جماعية لكن وصل الأمر بالوحشية الى سرقة أعضاء الجثث، ففى ديسمبر من العام الماضى 2023، أكدت الجهات الحكومية فى غزة التى كانت قد تسلّمت جثث 80 شهيدا، وجود تغييرات كبيرة وعلامات سرقة أعضاء من الشهداء، لتعيد الحادثة مجددا النقاش بشأن السياسة الإسرائيلية القديمة فى سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، حيث وصفت منظمات حقوقية إسرائيل فى وقت سابق بأنها مركز عالمى للاتجار غير المشروع بالأعضاء، كما يتم نزع الجلد من جثث الضحايا ليذهب إلى بنك جلدى خاص أسسه الجيش لاستخداماته فى حالات مثل ضحايا الحروق.
تأتى السياسة الإسرائيلية القائمة على انتهاك حرمة الأموات والشهداء، فى سياق سلوك أوسع كان ممتدا على مدار عقود طويلة من الاحتلال، لكنه أصبح أكثر وضوحا خلال الحرب على غزة، والمتمثل فى ترسيخ فكرة العداء المطلق للطرف الآخر، والرغبة الجامحة فى النيل منه بأى طريقة كانت، وصولا إلى امتهان شرفه العسكرى فى حالة المقاتلين، بخلاف ما تحض عليه اتفاقية جنيف والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ومن ثم نزع أى سياق اجتماعى أو سياسى أو تاريخى عنهم.. كما أن عمليات الإعدام الميدانى ودفن الشهداء فى مقابر جماعية لا تمثل عرضا من أعراض النزاع، وإنما هى انعكاس لتاريخ طويل من القمع المنهجى -كما ذكر تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش فى يناير الماضي- ومحاولات سحق الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم بأشنع الطرق والأساليب.
مياه مسرطنة.. نفايات مشعة واحتباس حرارى
من النهر إلى البحر.. إسرائيل تدمر البيئة
مصطفى محمود:
نشر معهد أرافا لدراسات البيئة فى فلسطين المحتلة فى يونيو الماضى تقريرًا عن ضرر هجوم إسرائيل المستمر ببيئة قطاع غزة. أوضح التقرير أضراراً لا تُحصى كالغبار والنفايات السامين وتأثيرهما الدائم، وتدمير محطات تنقية المياه وانتشار الأمراض المنقولة بها، وتناقص الماء والكهرباء، والمجاعة والحر الشديدين، وجدب المطر.
يذكر التقرير أن الضرر البيئى ينسحب على الصحة أيضًا وأنه أدى إلى ظهور فيروس شلل الأطفال فى مياه الصرف الصحى فى غزة، ما جعل جيش الاحتلال الإسرائيلى يسارع إلى تطعيم جنوده والموافقة على مضض على تطعيم أطفال غزة، ثم إن إسرائيل فاجأتنا بعرضها إعادة بناء بنية الصرف الصحى التى دمرتها خوفًا على صحة المستوطنين القريبين من غزة.
يوضح التقرير أن كامل المنطقة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط نظام بيئى واحد يضره ما يضر غزة التى هى فى قلب الضرر، وأن تواصل قصف إسرائيل منذ 7 أكتوبر أخلّ ببيئته. بل كانت غزة على الخطر الشديد من قبل 7 أكتوبر، مع تلوث 97 ٪ من المياه، إذ يعتمد القطاع على 3 خطوط أنابيب من إسرائيل. ولكن تدهورت البيئة كثيرًا فى أثناء الحرب، مع إطلاق كمية هائلة من الغبار السام من نحو 37 مليون طن من الانفجارات التى تسحق الخرسانة إلى جزيئات سامة تظل فى البيئة وتتسرب إلى جسم الإنسان مع تقليب الرياح لها، لا سيما مع توسع استخدام مادة الأسبستوس الرخيصة المسرطنة فى البناء، وكان قد اكتشفها باحثون بعد قصف إسرائيل غزة فى 2021. كما استخدم جيش إسرائيل الفوسفور الأبيض، وهو سلاح حارق شديد السمية.
هذا الضرر يبقى سنوات حتى بعد انتهاء الحرب، فمثلًا لا يزال سكان نيويورك يعانون أثار هجوم 11 سبتمبر بسبب تناثر الحطام والغبار الذى أحدث لهم سرطانات وأمراضًا أخرى فى الجهاز الهضمى لم تكن من قبل، فما بال غزة!
لقد تراكمت عشرات الآلاف من أطنان النفايات فى الشوارع، وهى تلوث التربة والمياه الجوفية . كما أن تراكم النفايات يجذب القوارض التى تنقل الطاعون وغيره إلى الإنسان، ومع الحر والرطوبة الشديدن، فالبيئة مثالية لتكاثر البكتيريا.
ومع انهيار الرعاية الصحية، يرى خبراء أن من المعجزات أن غزة لم تشهد حتى الآن أوبئة أسوأ. فالخبراء يتوقعون أن الحرب القائمة قد أنتجت نحو مليون طن نفايات سامة بها مواد مشعة ومسرطنة ومعادن ثقيلة ومبيدات حشرية وكيماويات أخرى من الذخائر العسكرية، وأن الظروف مهيئة لحدوث أوبئة عاجلًا أم آجلًا.
وادى غزة من أكثر المناطق المعرضة للخطر، بخاصة من مياه الصرف الصحى السامة، وهو امتداد نهر بيصور المتدفق من الخليل فى الضفة الغربية عبر بئر السبع حتى مصبه فى البحر الأبيض المتوسط، وهو مصدر المياه الجوفية ويعتمد على مياهه أهل غزة.
فبحلول منتصف نوفمبر الماضى، أُغلقت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحى الخمس فى غزة ومعظم محطات ضخ الصرف الصحى البالغ عددها 65 محطة بسبب نقص الوقود.
وكان قبل الحرب يتدفق من غزة 13 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحى غير المُعالج إلى البحر كل يوم. ويقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن هذا الرقم وصل 130 ألف متر مكعب كل يوم، وأن سكان غزة يشربون تلك المياه ويستحمون بها.
إن عواقب شرب المياه الملوثة وخيمة على الصحة تصيب بأمراض فتاكة كالكوليرا والتيفود وشلل الأطفال، لا سيما عند الأطفال، وهم نحو نصف سكان غزة. وقد حذرت منظمة الصحة العالمية أن الأمراض المعدية المرتبطة بندرة المياه وتلوثها قد تقتل من أهل غزة مثلما يقتل منهم قصف إسرائيل. كما بعث باحثون وأطباء مخاوف من ظهور بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، وأن اتصال البكتيريا بالمعادن الثقيلة التى تبثها المتفجرات يسهم فى استفحال المشكلة.
لا تتحمل الأرض الحروب لأنها تزيد غازات الاحتباس الحرارى، أما فى غزة، أطلق جيش إسرائيل فى أكتوبر ونوفمبر وحدهما نحو 281 ألف طن من ثانى أكسيد الكربون، هذا فى مجمله يساوى 5.5 ٪ من غازات الاحتباس الحرارى فى العالم كله وحرق نحو 150 ألف طن فحم؛ ذلك الكم يكفى 25 ألف أسرة من الكهرباء عامًا. وقد أسقطت إسرائيل منذ 7 أكتوبر حتى آخر ديسمبر أكثر من 89 ألف طن متفجرات على غزة ونفذت أكثر من ربع مليون طلعة جوية فى تلك الأشهر الثلاثة الأولى.
ويقول برنامج الأراضى والموارد الطبيعية فى جامعة البلمند فى لبنان إن ضربات إسرائيل فى جنوب لبنان أحرقت نحو 4 آلاف فدان كانت تمتص عادم 2600 سيارة. وكانت حرب إسرائيل على حزب الله قد أحرقت العامين الجارى والماضى نحو 550 فداناً، والوضع يزداد سوءًا خاصة مع الصناعة العسكرية لإسرائيل وتحليق الطائرات وتحريك الدبابات، وكل هذا ينتج عادمًا هائلًا.
أما إعادة إعمار غزة، فيُتوقع أن ينتج نحو 30 مليون طن متر غازات احتباس حرارى لبناء 100 ألف مبنى، وإجمالًا تنتج صناعة البناء فى العالم كله نحو 11 ٪ من عادم الكربون من تصنيع الخرسانة والصلب ونقل المواد وتشغيل الآلات وهدم المبانى.
فى غزة.. حياة بطعم الموت
مجاعة.. أمراض.. نزوح.. ومصير غير معلوم
المنظمات الدولية تحذر من تداعيات الأزمة.. والاحتلال يخنق القطاع
آية مهران:
حياة بطعم الموت .. تلك التى يحياها الفلسطينيون منذ بداية العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى السابع من أكتوبر الماضى، فلم يقصفهم الاحتلال بالقنابل والمتفجرات فحسب، بل أحرقهم بنيران الجوع والمرض والفقر والتشريد،وسلب منهم أدنى مقومات الحياة، فكانت النتيجة مأساة إنسانية موحشة يبكى لها البشر والحجر، وعجزت أمامها كل جهود المنظمات الإنسانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة مع منع الاحتلال دخول المساعدات وإغلاق المعابر،فأصبح أهالى القطاع محاصرين من كل جانب محرومين من الغذاء والدواء والمأوى.
يعانى قطاع غزة من مجاعة شديدة نتيجة الحرب التى دمرت البنية التحتية للغذاء، مثل المخابز وطواحين الدقيق، بالإضافة إلى وجود ندرة واسعة النطاق فى المواد الأساسية، مما ترك أكثر من مليون شخص فى غزة على شفا المجاعة كجزء من أزمة إنسانية أوسع نطاقاً فى القطاع.
وقد اتهمت منظمات حقوق الإنسان إسرائيل باستخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، كما زاد دخول عدد محدود من شاحنات المساعدات من حدة المجاعة، مما دفع الخبراء إلى وصفها بأنها واحدة من أسوأ حالات التجويع التى صنعها الإنسان فيما يقرب من قرن.
ونتيجة للمجاعة، مات عدد من الفلسطينيين معظمهم من الأطفال وتجاوز عددهم الـ 50 شخص، وهوما وصفته الأمم المتحدة بأنه دليل قاطع على أن الجوع احكم قبضته على أرض الواقع فى غزة .
ويحاول الفلسطينيون التأقلم مع الأوضاع المأساوية فهم يستخدمون الخشب والبلاستيك لإشعال النيران أن وجدوا ما يطهوه بينما اضطر معظمهم لأكل العشب وأوراق الشجر وأعلاف الحيوانات من أجل البقاء على قيد الحياة،كما يبحث الأطفال فى القمامة عن أى طعام بعد أن نفد من القطاع أنواع كثيرة من الغذاء وتعثرت المساعدات فى توفير المطلوب.
وأعلنت الأمم المتحدة أن هناك مجاعة منتشرة فى كافة أنحاء القطاع، مؤكدة انه يحتاج ما لا يقل عن 300 شاحنة مواد غذائية يوميا على الأقل للخروج من حالة المجاعة وهوأمر يمنعه الاحتلال بعدما اغلق المعابر الانسانية .
بدأت مظاهر المجاعة عندما اختفت المعلبات التى اعتمد عليها أهالى القطاع فى غذائهم منذ بدء العدوان من الأسواق، وتبعها دقيق القمح والأرز الذى خلت منه الأسواق، فيما افاد قطاع الأمن الغذائى بأنه لم يزل سوى ستة مخابز من أصل 18 مخبزًا تدعمها المنظمات الشريكة فى مجال العمل الإنساني- تزاول عملها فى شتّى أرجاء غزة بسبب نفاد الوقود واستمرار الأعمال القتالية.
وأكد المكتب الإعلامى فى غزة أنَّ شبح المجاعة «يكبر يوماً بعد يوم»، مما يُنذر بارتفاع أعداد الوفيات بسبب الجوع، خاصة بين أكثر من مليون شخص باتوا تحت التهديد المباشر لسوء التغذية، من بينهم 3500 طفل باتوا أقرب للموت بسبب سوء التغذية وانعدام الغذاء والمكملات الغذائية والتطعيمات.
وأعلنت وزارة الصحة فى قطاع غزة رصد حالات تسمم غذائى بين النازحين فى اماكن متفرقة من القطاع، بعد تناولهم أغذية منتهية الصلاحية.
أما بالنسبة للوضع الصحى فيعيش الفلسطينيون أوضاعا سيئة للغاية حيث خرجت معظم المستشفيات عن الخدمة بسبب نقص الوقود أو بالأحرى انعدامه، رغم أن اعداد المصابين من جراء القصف فى تزايد مستمر، فأصبحوا ملقون فى الطرقات بدمائهم إما يعيشون بإصابات دائمة أو يتركون حتى يلطف بهم الموت .
وكشفت وزارة الصحة الفلسطينية فى يونيو الماضى أن حوالى 13 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى فى قطاع غزة يعمل جزئيا، ويواجه نقصا حادا فى العاملين والإمدادات الطبية، بما فى ذلك التخدير والمضادات الحيوية، ما يجعل العاملين فى مجال الرعاية الصحية يكافحون من أجل إنقاذ الأرواح.
وبعيدا عن الإصابات جراء القصف فنظرا للوضع الإنسانى الصعب الذى يسيطر على القطاع وسكانه، انتشرت أمراض متعددة بسبب الاكتظاظ فى مراكز الإيواء وعدم النظافة، حيث حذر خبراء الصحة العامة من تفشى الأمراض وانتشارها فى غزة. ووفقاً لمنظمة أوكسفام والأمم المتحدة، فإن افتقار غزة إلى المياه النظيفة والصرف الصحى من شأنه أن يؤدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالكوليرا وغيرها من الأمراض المعدية القاتلة.
وانتشرت فى مراكز النازحين حالات الطفح الجلدى والحمى الشوكية والتهابات الرئة ومشاكل فى المعدة والالتهاب السحائى بين الأطفال والجرب وجدرى الماء و الكبد الوبائى والفشل الكلوى بسبب استهلاك المياه المالحة والجفاف.كل هذه الأمراض متروكة دون علاج أو حتى وقاية نظرا لإنعدام كل مقومات الحياة الطبيعية وتعطل أنظمة الصرف الصحى وعدم توافر الأدوية وعدم تعامل القطاع الصحى معها بسبب الحرب .
وحسب تقديرات الهلال الأحمر الفلسطينى فإن عدد المصابين بهذه الأمراض قد يتجاوز المليون إصابة علما بأن عدد سكان القطاع 2.1 مليون نسمة أى نصف سكان القطاع، كما أن النصف الآخر غير مستبعد من الإصابة .
وفى يوم 16 اغسطس الماضى ظهرت أول حالة شلل أطفال مؤكدة بين أطفال القطاع فى مدينة دير البلح لرضيع يبلغ من العمر 10 أشهر.
مما اضطر الأمم المتحدة بالتدخل السريع والاشراف على حملة قادتها بالتعاون مع وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمات اغاثية اخرى تستهدف تطعيم 640 ألف طفل تحت سن العاشرة ضد مرض شلل الأطفال
من جانب الصحة النفسية فقد ساهمت شهور من الغارات الجوية والانفجارات المتواصلة فى التدمير الحالة النفسية للأطفال فى غزة.فأكثر من 70 ٪ من أطفال القطاع لديهم صدمة نفسية شملت أعراضها التشنج والعدوان والتبول فى الفراش والعصبية. وظهرت على الأغلبية أعراض الإجهاد اللاحق للصدمة.
وبجانب كل هذه الأوضاع المتردية يعانى أهل القطاع من النزوح المتكرر من مكان لآخر بحسب أوامر الاحتلال،يحملون أمتعتهم فى كل مرة على أمل ألا يحملوها مرة ثانية إلا إلى منازلهم،ولكن يصعقهم الاحتلال بأوامر جديدة للاخلاء، وذلك إن لم يقصفهم فى مراكز النزوح التى يدعى إنها مناطق إنسانية آمنة وخير دليل على ذلك ما حدث فى منطقة المواصى التى ارتكب فيها الاحتلال ابشع مجازره.