فى أكتوبر من عام 1953، قتلت القوات الإسرائيلية بقيادة أرئييل شارون 69 قرويا فلسطينيا على الأقل، معظمهم من النساء والأطفال أثناء اختبائهم فى بيوتهم التى تم تفجيرها فيما باتت تُعرف بمذبحة قبية بالضفة الغربية. العملية الوحشية استدعت شجبا وتنديدا من مجلس الأمن الدولى واستهجانا ورفضا من المجتمع العالمى.
ردة الفعل الدولية السلبية- من وجهة نظر إسرائيل- دفعت مؤسس اللجنة الصهيونية الأمريكية يشعيا كينن، بالتشاور مع شخصيات يهودية بارزة، إلى المبادرة لإنشاء جماعة ضغط تتولى مهمة الدعاية لمصالح إسرائيل وزيادة الدعم المالى للدولة الوليدة التى كانت تواجه أزمة مالية فى مطلع الخمسينيات نتيجة لتوافد المستوطنين اليهود الجدد. وفى عام 1959 أعيد تسمية اللجنة لتصبح لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية أو ما تُعرف اليوم بمنظمة «أيباك».
وعلى مدار سنوات طويلة، لا سيما بعد حرب أكتوبر، كان نفوذ أيباك وسطوتها لا سبيل لمنازعته فى المجلس التشريعى الأمريكى بغرفتيه -النواب والشيوخ- حتى أن مؤتمرها السنوى كان يستقطب قائمة طويلة من أعضاء الكونجرس من الحزبين الديمقراطى والجمهورى الذى يحضرونه للتعبير عن دعمهم لجماعة الضغط الصهيونية وإسرائيل من ورائها.
كانت أيباك تقليديا تعلن تأييدها للمرشحين فى انتخابات الكونجرس الذين يبدون تعاطفا نحو إسرائيل وتترك مهمة تمويل حملاتهم الانتخابية لجهات أخري. لكن فى ديسمبر 2021 تحول اللوبى الإسرائيلى لأول مرة فى تاريخه الممتد لـ70 سنة إلى تقديم الدعم المالى المباشر لحملات انتخابية فردية عبر إطلاق لجنة عمل سياسى كبرى تحت اسم «مشروع الديمقراطية المتحدة». ويجوز لمثل تلك اللجان الإنفاق من دون أى قيود لدعم أو معارضة المرشحين لكن لا يحق لها تقديم تبرعات مباشرة لحملاتهم. وعوضًا عن ذلك، تلجأ إلى وسائل أخرى مختلفة مثل الحملات الإعلانية وجهود تعبئة الناخبين والمناصرة.
وفى شهر نوفمبر الماضى وحده، قدمت أيباك أكثر من 3.7 مليون دولار لحملات مشرعين أمريكيين، فى إطار جهودها لإقناع أعضاء الكونجرس بإرسال المزيد من المساعدات إلى إسرائيل، وهى الجهود التى أسفرت مؤخرا عن الموافقة على تخصيص 13 مليار دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل لحربها فى غزة.
من ناحية أخري، تعتزم أيباك إنفاق 100 مليون دولار هذا العام ضد مرشحين فى الكونجرس، من الحزب الديمقراطى بالأساس، بل وأعضاء فى الكونجرس من المنتقدين لإسرائيل. ويتهم معارضو تلك الخطوة أيباك بمحاولة تخويف المرشحين وحملهم على تجنب انتقاد إسرائيل عبر التهديد ضمنيا بتمويل حملات مناوئة لهم.
وتتخوف أيباك من أن يؤدى انتخاب مرشحين منتقدين لإسرائيل إلى فتح الباب أمام وضع شروط للمساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل أو تآكل الحماية الدبلوماسية التى توفرها لها واشنطن على الصعيد الدولى أو ممارسة ضغوط سياسية على الدولة العبرية من أجل قيام دولة فلسطينية. وتظهر استطلاعات الرأى أن شباب الحزب الديمقراطى على وجه الخصوص، ومن بينهم يهود أمريكيون، باتوا أكثر انتقادا للقمع المتصاعد الذى تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين وهو الاتجاه الذى عززته الحرب الدائرة الآن فى غزة ثم تبعتها مواقفه بل دعم جديد لـ 26 مليار دولار يذكر أن المتبرعين الرئيسيين لـ»مشروع الديمقراطية المتحدة» هم بالأساس جمهوريون يسعون للتأثير فى الانتخابات التمهيدية للمرشحين الديمقراطيين.
ويُعد الملياردير الأمريكي- الأوكرانى المحافظ جان كوم، أحد مؤسسى تطبيق واتس آب، أكبر متبرع للجنة العمل السياسى المذكورة حيث قدم لها 5 ملايين دولار. كما قدّم بول سينجر، المدير البارز لأحد صناديق التحوط، مليون دولار إلى اللجنة وهو المعروف بدعمه السخى للقضايا السياسية الجمهورية على مدار سنوات عديدة.
تأتى هذه التبرعات بخلاف تعهدات بتقديم عشرات الملايين من الدولارات لأيباك فى أعقاب عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر الماضي.
وتصف جريدة هاآرتس الإسرائيلية أيباك اليوم بأنها «اللوبى المؤيد لنتنياهو والمعادى لإسرائيل» على حد زعمها. هذا التوصيف لا يخلو من حقيقة حيث دعمت أيباك رئيس الوزراء الإسرائيلى دعما مطلقا على مدار 15 سنة مضت بغض النظر عما قد يخدم مصلحة إسرائيل على المدى الطويل. وقد وصل بها الحال إلى مساندة نتنياهو ضد الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما عندما عارض البناء الاستيطانى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وأبرم اتفاقا نوويا مع إيران، بحسب صحيفة الجارديان البريطانية. وقد كشف أوباما لاحقا أن المنظمة أنفقت عشرين مليون دولار لإفشاله عبر حملات إعلامية وممارسة ضغوط فى الكونجرس وظهر الدعم الكبير من أيباك لنتنياهو خلال الشهور الماضية ورائم الإبادة التى ارتكبها فى حق الفلسطينيين لكن المنظمة تعمل بكل قوة لدعمه وحمايته من أى انتقاد داخل أمريكا.. وتقول هاآرتس عن دور أيباك فى الوقت الراهن، «لقد صارت المنظمة من الناحية الفعلية جناحا تنفيذيا لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة حيث تروج لصورة زائفة عن إسرائيل الليبرالية.
فهل تفلح أيباك فى إجهاض جهود جى ستريت وإيصال مرشحيها إلى مقاعد الكونجرس الأمريكى واستبعاد الأصوات المناهضة لها» هذا ما ستكشف عنه نتائج انتخابات مجلسى النواب والشيوخ التى تجرى فى 5 نوفمبر من هذا العام بالتزامن مع سباق الوصول إلى البيت الأبيض.